قراءة بلاغية للفعل "ٱقۡرَأۡ"
(به تَقَدُّم الأُمَم وفيه أسْبَابُ نهضتها)
﷽
﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢﴾ [العلق ١-٢]
يقول علماء البلاغة والتفسير:
"هَذا أوَّلُ ما أُوحِيَ بِهِ مِنَ القُرْآنِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ .
وافْتِتاحُ السُّورَةِ بِكَلِمَةِ (اقْرَأْ) إيذانٌ بِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَيَكُونُ قارِئًا، أيْ: تالِيًا كِتابًا بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَلا كِتابًا، قالَ تَعالى: (﴿وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ﴾ [العنكبوت: ٤٨]) أيْ: مِن قَبْلِ نُزُولِ القُرْآنِ، ولِهَذا قالَ النَّبِيءُ ﷺ لِجِبْرِيلَ حِينَ قالَ لَهُ اقْرَأْ: ما أنا بِقارِئٍ.
وفِي هَذا الِافْتِتاحِ بَراعَةُ اسْتِهْلالٍ لِلْقُرْآنِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: (اقْرَأْ) أمْرٌ بِالقِراءَةِ، والقِراءَةُ نُطْقٌ بِكَلامٍ مُعَيَّنٍ مَكْتُوبٍ أوْ مَحْفُوظٍ عَلى ظَهْرِ قَلْبٍ.
والأمْرُ بِالقِراءَةِ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ مِنَ الطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ فِعْلٍ في الحالِ أوِ الِاسْتِقْبالِ، فالمَطْلُوبُ بِقَوْلِهِ: (اقْرَأْ) أنْ يَفْعَلَ القِراءَةَ في الحالِ أوِ المُسْتَقْبَلِ القَرِيبِ مِنَ الحالِ، أيْ أنْ يَقُولَ ما سَيُمْلى عَلَيْهِ، والقَرِينَةُ عَلى أنَّهُ أمْرٌ بِقِراءَةٍ في المُسْتَقْبَلِ القَرِيبِ أنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إمْلاءُ كَلامٍ عَلَيْهِ مَحْفُوظٍ فَتُطْلَبَ مِنهُ قِراءَتُهُ، ولا سُلِّمَتْ إلَيْهِ صَحِيفَةٌ فَتُطْلَبَ مِنهُ قِراءَتُها، فَهو كَما يَقُولُ المُعَلِّمُ لِلتِّلْمِيذِ: اكْتُبْ، فَيَتَأهَّبُ لِكِتابَةِ ما سَيُمْلِيهِ عَلَيْهِ.
ويشير الزمخشري إلى أن التكرم من الرب على العباد بمعرفة العلوم وفهمها هو غاية الكرم وكماله حيث قال: “وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به”
والدعوة للقراءة هنا هل كانت دعوة للقراءة بمعناها الظاهر أم أنها دعوة لقراءة الكون بما فيه؟ وما هو المعنى الحقيقي لـ «اقرأ»؟
إنها دعوة للاستقراء والاستنباط لما وراء الكلمات والعلاقة بين الأسباب والمسببات تبدأ بملاحظة الظواهر البسيطة ثم تفتح أبواب العقل للكون بأكمله.
كلمة " اقرأ" تمثل تنبيها للعقل الإنساني وفكر المسلم للانتقال من عصر جاهلية مشركي مكة إلى آفاق العالم إلى يومنا هذا.
ماذا تعني القراءة وما أهميّتها ؟
القراءة لغة هي النطق بالمكتوب أو المحفوظ عن ظهر قلب، كما تعني التّلاوة التي هي نطق بالكلام على صفة مخصوصة، كما تعني إلقاء النظر على المكتوب ومطالعته، ومن الوسائل المعتمدة في القراءة نذكر الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة والرسالة وقراءة الكتب ، ومن وسائل القراءة أيضا المقابلة المباشرة مثل التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء.
وفي عصرنا الراهن الذي يعبر عنه بمجتمع ما بعد الصناعي أي مجتمع المعلومات وهو الذي ازدادت فيه تكنولوجيا المعلومات نتيجة تحوّل الاقتصاد إلى العالمية، فقد تطوّرت فيه وسائل القراءة لتصبح الوسائل أهم من الرسائل، ونعني بالوسائل:وسائل الاتصال الحديث خاصـــة «الإنترنت». وتتشابه الإنترنت في كثير من النواحي مع غيرها من وسائل الاتصال التي سبقتها في الظهور ولكنها تتميز عليها جميعـــا في استخداماتهــا الواسعــة المتنوعة وقدرتها على أن تؤدي في وقت واحد عددا من العمليــات تعجز عن القيام به أي من الوسائل الأخـــرى. فالإنترنت واسطة للاتصال الفردي والجماهيري وأداة لنشر النصـــوص والكتابات وطباعـــة ما يتم نشره على الشاشة، وجهاز لمشاهدة الفيديو وسماع الراديــــو وإرسال الرسائل الالكترونية واستقبالها لحظة إرسالها.
وبعد توضيح مدلول القراءة ووسائلها قديما وحديثا، فإن السياق يقتضي إبراز أهميتها.
فتتجلى أهمية القراءة في أنها ضرورة شرعية كما هي ضرورة تعليمية وتربوية، وهي كذلك ضرورة حضارية.
القراءة ضرورة شرعية:
ومما يؤكد ذلك أنّ أول أمر توجه الخالق به إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو «اقرأ». وهذا الأمر لا يخصّ النبي فقط بل يشمل كل المكلّفين لأنّ طلب العلم فريضة، والقراءة طريق إليه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعليه فالقراءة من الأفعال الواجبة التي يثاب المكلف على فعلها ويأثم على تركها، وهي بهذا ضرورة شرعية.
وهي أيضا ضرورة تعليمية وتربوية، لأنّه لا غنى لمن أراد تعليم الناس وتربيتهم من المطالعة. يقول أحد الأدباء : «إن المطالعة بالنسبة للمعلمين شيء أكيد وحيوي لأن المعلم الــــذي لا يقرأ ولا يطّلع على سير الأفكار في العالم خطر على الناشئــــة، إنـــه رجل يحسب أن كل المعرفة والعلم فـــي الشهــــادة التي حصل عليها، إنه رجـــل يحسب أن الذي ظفر بالترسيم فـــي سجــــل المعلميـــن آن له أن يستريح من عناء الدرس والتحصيل..وآن له أن يترك الكتابــــة ويطوي الكتب. فهل أخطر من هذه العقلية على الناشئة؟! رجل يتطور العالم من حوله وتستجدّ معارف، وتتصارع مبادئ وآراء، وتتقدم علوم وفنون، وتستبدل طرق عقيمة بالية بطــرق جديدة ومناهج فاشلة بأخرى ناجحة، وتبحث مشاكل يتوقف علـــى حلها مستقبل أجيـــال، وهو لا يشعر بالحاجة إلى مجاراة التيار ومحاذاة الركب السائـــر ،رجل يوكل إليه أمر أجيـــال من شباب الوطن ليفتح فكرهم للمعرفة وبصرهم للنور وليس له إلا النزر القليل من المعارف المتناقص على كرّ الليالي والأيام».
والذي يبرز من خلال ما تقدم أن المعلم المربي الذي لا يقرأ لا يمكنه أن يؤدي وظيفته على الوجه المرضي، كما لا يمكنه أن يكون متميزا في مجال اختصاصه، ويقاس على المعلم كل من له وظيفة اجتماعية، إذ لا بدّ له من القراءة التي تكسبه العلم الذي يرفع من مستوى أدائه لدوره في الحياة، فالقراءة بالنسبة لعقل الإنسان كالرياضة بالنسبة لجسمه، ولقد أحسن من قال إن القراءة تصنع الإنسان المتكامل، وإنّ الشخص الذي لا يقرأ لا يكون في درجة أعلى من الإنسان الذي لا يعرف القراءة.
القراءة كذلك ضرورة حضارية لأن الإبداع الذي به تتقدم المجتمعات وتتطوّر يقتضي القراءة الواسعة، يقول الباحث التونسي الدكتور حمادي العبيدي في هذا السياق: «إن الإبداع يتطلب سعة الإطلاع والقراءات المتنوّعة...إن العديد من المشاهير لا تعود شهرتهم إلى الشهادات الجامعية العالية وإنما يعود إلى جهودهم في الدراسة والاطلاع ...وإذا كان الإبداع يتطلب سعة الاطلاع والقراءات المتنوعة، فإنه يتطلب وفرة الإنتاج في المجال الذي تخصص فيه، فالكم الوافر لابد منه...حتى قال بعضهم «لا إبداع بغير جهد متواصل في الإنتاج» وقد قيل عن بعض العلماء المكتشفين إنه كان ينجز أكثر من مائتي بحث في مجال اختصاصه سنويا، وكان آخر ينجز بحثا كل ثلاثة أسابيع» .
ولا يخفى علي ذي بصيرة وإنصاف أن فضل المسلمين في العلم لا يحصى ، فقد ألف العلماء العرب والمسلمون في العلوم المختلفة :منها النبات والحيوان والكيمياء والصيدلة والطب والفلك والموسيقى، وفي علوم البحار والهندسة وحساب المثلثات وغيرها، كما لا يجحد فضل ابن سينا والبيروني والكندي والغافقي والفارابي والبغدادي والقزويني والجاحظ والخازن وجابر بن حيان وابن البيطار وابن ماجد ملاح فاسكودي جاما والرازي والمقدسي والبتاني، وموسى بن شاكر وغيرهم.
وظلت مؤلفات العرب والمسلمين في مختلف العلوم والمعرفة هي المراجع التي تدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر، واعترف عدد كبير من مؤرخي العلم بفضل المسلمين والعرب على العالم والإنسانية وكان لهم باع كبير في كل الميادين، من أمثلة ذلك أنهم تكلموا عن التطور من وجهة النظر الإسلامية قبل داروين في القرن التاسع عشر، وقد كتب في التطور ابن مسكويه وإخوان الصفا وتحدث المسلمون من أمثال ابن خلدون عن أثر البيئة على الأحياء فهو بذلك سابق لامارك ودارون. وتحدث علماء العرب عن الجاذبية قبل نيوتن فابن الخازن كتب عنها قبل نيوتن بمئات السنين.
وابن النفيس شرح الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بقرون، والحسن بن الهيثم كتب عن الضوء وانكساره وقوانينه وسرعته قبل علماء أوربا، كذلك أضاف القباني والفرغاني والكندي والصوفي كثيرا من المعارف الفلكية والرياضية، وابتدع الخوارزمي استعمال الأرقام في الحساب واختار سلسلته من الأرقام الأولى ما يعرف بالأرقام الهندية ١، ٢، ٣، والثانية ما يعرف بالأرقام "الغبارية" العربية ١، ٢، ٣ وتستعمل الأولى في البلاد العربية والثانية في بلاد المغرب العربي وأوربا.
كذلك أنشأ الخوارزمي من الحساب والجبر علما بعد أن كان مجرد معلومات متفرقة، والعرب أول من أطلقوا اسم الجبر على هذا العلم كما استعملوا الصفر والإحصاء العشري. وكان الخوارزمي رياضي بلاط المأمون الذي كلفه بأن يؤلف رسالة في الجبر تكون صالحة لاستعمال الجمهور، ومن هذه الرسالة استطاع الغرب أن يطلع على هذا العلم بعد زمن طويل.
وفي الطب والصيدلة قضى الإسلام على الكهانة وحارب التنجيم والشعوذة.
وأختم بقول القائل:
ما الفضلُ إِلا لأهلِ العلمِ إِنهمُ …… على الهُدى لمن استهدى أدلاءُ
وقيمةُ المرءِ ما قد كان يحسِنُهُ ….. والجاهِلونَ لأهل العلمِ أعداءُ
فقمْ بعلمٍ ولا تطلبْ به بدلا ….. فالناسُ مَوْتى وأهلُ العلمِ أحياءُ