"إلى من حيرت قلبي غرابتها، وأجهدت أسرارها عقلي"
يهدي الكاتب روحه المنثورة في حرف إلى "النفس البشرية"، ذاك الملكوت الخفي الذي تعربد في فلاته المتناقضات والغرائب، ويعيث في مدائنه العجز تارة والجنون تارة، والغث والفضل تارةً أخرى..
فيظل المسافر في دروبها ـ دون حكمة ترشده وشجاعة تسنده ـ متأرجحًا بين غرور العلم التام بها ولهو الجهل الشاغل عنها، وبين هذا وذاك ينطرح وهم الإلمام بأسرارها صريعًا من شباك الذهول؛ فالغواص الماهر كلما أتقن السباحة في أعماقها؛ كلما كُشفت عن قلبه الأغطية؛ فأبصر ما وراء الحجب من أسرار وإسرار، وكلما فُتح لسعيه الدؤوب بابًا من الفهم عنها، كلما طمع في المزيد، ذلك المزيد الذي لن يتم الحصول عليه إلا بالحب غير المشروط!؛ ذلك الذي يمنح صاحبه القدرة على تحمل مشاق كدّه دون كلل، أو ملل، أو اكتفاء، أو استغناء.
يقول ألبير كامو:
"لو كان عليَّ تأليف كتابًا عن الأخلاق لجعلته من 100 صفحة، 99 منها بيضاء، وكتبت في الأخيرة: لا أعرف سوى واجب واحد، ألا وهو الحب"
وهنا الكاتب قد عاش مولعًا بكل ما يخص النفس البشرية، منذ تلك اللحظة التي نبض فيها الحرف بداخله؛ فراودته السطور عن مسّه؛ فوهبها روحه وما اعتمل داخله طوعًا وحبًا، ولِمَ لا وهو القائل في سيرته:
"أحببت جدًا مادة القانون الجنائي حبًا، يفوق حبي غيرها من المواد، كنت أشعر أنني لا أدرس؛ لكي أحصل على شهادة، وإنما أدرس طبيعة البشر وطباعهم، معاملاتهم، نفوسهم، الخير والشر في النفس البشرية" فجورها وتقواها...
دراسة تجعل من يتلقاها يسبق أوانه بأوان، يرى نفسه وهي تشيخ، يشعر بالرجولة،..."
والمتأمل في كتابه "يوميات وكيل نيابة"؛ سيدرك كيف يتضافر البعد الإنساني مع البعد الفلسفي والبيان النابض من صدر الواقع؛ لإنعاش الحِس في قلب كل قارئ، وربطه بالواقع وآلامه، الذي يجافيه الكثير أو يتنصل من الانتساب إليه ومعايشته الحيارى والمخذولين.
وفي هذا العمل القصصي، تمكن الكاتب من سبر أرواحنا، بلغة سلسة قوية كأنها السهل الممتنع، وبيان متدفق، وفلسفة إنسانية ممتعة، ورشاقة لفظية، وتسلسل سردي رائع نذوب مع فيضانه، مما جعلنا نتماهى بين رجيف السطور، وحبكة رائعة لكل قصة، وتنوع النهايات بين النهاية المفتوحة؛ لإنعاش ذهن القارئ واقتسامه التفكير مع الكاتب، مثلما كان يختم كل قصة في كتابه "يوميات وكيل نيابة" بسؤال حائر عن النفس، وكذلك النهاية المذهلة، أو غير المتوقعة كما سنرى في هذه المجموعة القصصية.
ـ في قصة" انتصار حب ـ شفيت بحبك"
نجد أن الموت حين التقم المنسأة التي كانت تتوكأ عليها الفتاة العشرينية، وتستند بكل ما ألمّ بها من ضعف إليها؛ سقطت أوراق عافيتها، واحتضنتها صدور آلام الوحدة؛ فاعتل قلبها، وحين تلفتت يمنة ويسرة؛ بحثًا عن المأوى أو السند، فلم تجد إلا مرضها، والمال الذي يجبن عند الصدمة الأولى للعجز عن شراء يومًا صحيحًا لم ينهشه رهق أو تعب؛ فالمال رغم أنه وسيلة تعين على الحياة إلا أنه عبدٌ أجوف بلا روح يتلاعب بالأنفس؛ فلا هو يُكسبها العافية ولا هو يمنحها الترياق،
فنهضت تنتزع وجع الحياة من قلبها عنوةً ولو كان ـ على حد تفكيرها ـ بالإجهاز عليه؛ فسقط قلبها بين زراعي الحب مغشيًّا عليه؛ فلما أصابها مسّه؛ نهض فيها كل شئ حي إلا المرض قد شيعه الحب إلى مثواه الأخير!
فالروح زادها الحب الذي يطعمها الحياة.
والقصة تحمل في ثناياها صرخة في وجه النفس البشرية، التي جثم على أنفاسها الفقد والوحدة أن:
انهضي، وتحرري من سياج أحزانك؛ فأرض الله واسعة، وسماؤه أرحب، فتنفسي خارج قيودك، فالحياة في انتظارك.
يقول أنطون تشيخوف:
"الشمس لا تشرق في اليوم مرتين، والحياة لا تعطى مرتين؛ فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك ولتنقذها!"
قصة "طريق آخر.. ما أغرب النفس!
حين تتواكل، فتُسقط الأيام من رحمها شخصًا معاقًا، يُعربد في أفنية الفراغ بلا هدف، وحين يتلبسه العجب؛ يقع صيدًا ثمينًا في شباك الغضب الذي يلقي به في أفواه الظنون، فينصاع دون تبين أو إمهال، ليهدم آماله بما كسبت يد حمقه.
ذلل الله الأرض للإنسان، وجعلها قارة، ساكنة، تفيض بالخيرات، وأمره بأن يمشي في مناكبها متوكلًا عليه، وهنا بطل القصة قد نال منه الوهن، فبدلًا من أن تغدو أفكاره وكل ذرة في كيانه خماصًا للعمل والعلم والمعرفة؛ لتعود ملأى بفضل الله وجبره ورضاه، آثر التواكل والخنوع، ومضى في الحياة معتمدًا على عجبه بنفسه، وحين منحته حبيبته فرصة لتصنع منه رجلًا، يستطيع أن يأخذ قراره بنفسه، ويخطو أولى خطواته للنجاح؛ صفعها بضيق أفقه، وفهمه القاصر، وظنونه العمياء؛ فأسقطته من قلبها وعينها، واختارت طريقًا آخر.
والقصة بأوجاعها توجه صفعة لقلب النفس الراكنة إلى غفلتها وسباتها أن:
أفيقي؛ فكما قال أفلاطون:
"قيمة الرجل تكمن فيما يستطيع تحقيقه بالقوّة التي بين يديه."
ـ قصة "من جديد ـ احكِ عنها"
ما أعجب خبايا النفس إذا أتاها الوفاء ـ مخلوطًا بالحب وأنات الفراق ـ خاطبًا قلبها!
ترى هل ستمنحه إياه على طبق من صدق أم تضن به؟
تاقت روحها إليه حين تقدم لخطبتها؛ لأنه إنسان رائع، لكنها أصرت على الرفض؛ لأنه أرمل ولديه طفلان، وباءت محاولات إقناعها بالفشل، لكنها حين سألته عَرَضًا:
ـ احكِ عنها.
فتولى عنه الوفاء الكلام، وقص عليها من إرثها الساكن في روحه؛
باغتته قائلة:
"سأتقمص روحها؛ لأحظى بمثل هذا الحب"