ما أروع أن يحقق الإنسان ذاته، ويُفعّل مواهبه، ويبني مشروعه المهني أو مجده العلمي والأدبي، وهو في سن الخمسين أو بعدها بسنوات قليلة؛ بحيث يُسهم عبر حياته ومنجزه في تطوير مجتمعه وتنميته والارتقاء بثقافته ومعرفته وقيمه، ثم يبتعد عن الحياة المهنية، بعد توفير حد معقول من الأمان المادي ليعيش حياته الشخصية بهدوء، ويستمتع بصحبة مَن يُحب، ويفعل كل ما يُحب، بلا ضغوط مادية أو صراعات مهنية أو الاضطرار للدخول في سياقات مُهدرة للعمر والأعصاب والجسد، وفي معارك صفرية تبدد حياة وإنسانية الإنسان بلا طائل.
هكذا فعل الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي الشهير "وليم شكسبير" الذي حقق في عصره مجدًا أدبيًا لم يصل إليه من بعده إلى اليوم أحد، ثم عاد وهو في سن التاسعة والأربعين عام 1613 لقريته الريفية (ستراتفورد) التي شهدت مولده ونشأته الأولى، وابتعد هناك عن عالم المسرح والأدب والحياة الصاخبة في لندن، وعاش في سلام عيشة هادئة منعزلة مع أحبائه وأصدقائه، ثم مات سعيدًا راضيا بعد تلك العودة بثلاث سنوات عام 1616.
وأظن أن خيار الحياة الهادئة عند مرحلة معينة من العمر، مثّل أيضًا قناعة خاصة للكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير "فولتير" الذي ولد عام 1694، وتوفى عام 1778، وهو عقل الثورة الفرنسية الذي ساهمت أفكاره التنويرية في قيام تلك الثورة التي غيرت وجه الحياة في فرنسا وأوروبا، وانتشرت أفكارها في العالم كُله، لتُحدث أصداءً لا تزال تتردد إلى اليوم.
وهو أيضًا الفيلسوف الذي قضى الجزء الأكبر من عمره في صراع مع السلطتين السياسية والدينية في عصره، ومنفيًا بعيدًا عن بلاده.
وقد عبر فولتير عن قناعته هذه في روايته الفلسفية القصيرة الشهيرة (كانديد) التي كتبها عام 1759، ويُمكن تلخيص تلك القناعة في المقولة التي جاءت في نهاية الرواية على لسان بطلها كانديد، عندما قال في نهاية حواره الفلسفي مع الدرويش التركي: "يجب أن نزرع حديقتنا".
وهذه المقولة تعني ضرورة أن يتوقف الإنسان عن إرهاق عقله وروحه بالأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى، التي قد يصُعب الحصول على إجابات شافية لها، ليفعل بسلام ما يُحب، ويزرع حديقته الموجودة في فناء بيته، ويجني ثمارها بشكل مباشر، فيعرف أن الحديقة الصغيرة تُعطي ثمارًا كثيرة، إذا تم الاعتناء بها جيدًا، فيفرح، ويرضى برؤية الحصاد المباشر لجهده وعمله.
كما يُمكن أن نفهم من تلك المقولة، أنها دعوة للإنسان في مرحلة معينة من عمره، لكي يزرع حديقة روحه وعقله، ويعتني بها ليعيش في طمأنينة وسلام، ويجعل الحياة مُحتملة بقدر الإمكان.
ومن المؤكد أن هذا الخيار الوجودي لكل من شكسبير وفولتير هو خيار نابع من عظمة وروعة الإنسان فيهما، وتمتعهما بفضائل إنسانية كثيرة، مثل القناعة والقدرة على الاستغناء والزهد المادي والعقلي، والرغبة في الاستمتاع بحياة لا يعيشها الإنسان سوى مرة واحدة.