في ظني أن القبح ليس هو أخطر الأشياء التى تواجه المجتمعات .
فلا يوجد مجتمع في هذا الكون إلا ومسته درجة من درجات القبح تختلف بطبيعة الحال بين مجتمع وآخر وبحسب ثقافته ومدي تقدمه وتحضره.. هذا طبيعي ويتفق مع المكون البشري الذي تتكون منه المجتمعات .
لكن الخطر يكمن في التعايش مع القبح . عندما يعتاد مجتمع القبح ثم يتعايش معه على أنه أمر واقع أو أنه من سمات شخصية أفراده ومن ثم فلن تتولد لديه الرغبة في مقاومة القبح أو تغييره .
تخيل أن مجتمعاً تتعرض لغته التى تعبر عن هويته إلى هذا المسخ والتشويه وبدلا من أن يقاوم هذا يتعايش معه ثم يصبح هذا التشويه شىء معتاد لا يزعجه أو يصير مصدر قلق عنده.
من الضروري أن يتقن الشخص أو على الأقل يكون على قدر من الإلمام بلغة أجنبية . لكن ذلك مقصود به أن تتسع مداركه ودائرة معارفه لا أن يخلق هذه الألسنة المعوجة على حساب اللغة الأم دون إدراك أو علم أو معرفة .
طبقة من المجتمع اشترت لغة أجنبية بالمال لا أكثر .
هنا نتعايش مع القبح .
تخيل أن مجتمعاً ورث موسيقى منذ قرون عدة من الزمان ينتهي به الحال إلى هذه الحالة المزرية وبدلاً من أن ينتفض للدفاع عن أحد أهم مكوناته الثقافية يتعايش مع هذه الحالة ثم يصبح الأمر وكأنه معتاد .
تخيل أن مجتمعاً ورث إرثاً ثقافياً هائلاً من أدب بكل أشكاله يصير ما يقدم إليه بهذا الاضمحلال ثم يتعاطى معه على أنه الصورة المثلى لما يكون عليه الأدب وبدلا من أن يلفظه يتعايش معه .
يتعايش مع القبح.
مجتمع كان أفراده يقرءون للعقاد والمازني وطه حسين والحكيم وغيرهم من الأدباء العظام ويحفظون أشعار شوقي وحافظ وناجي وغيرهم أصبح يتعاطى مع هذا الذى يقال عنه أدباً أو هذا الذى يوصف بأنه شعراً .
مجتمع كان يعتبر التفكير فريضه صار يسلم عقله لعشرات الذين يلقون له كل هذا الكم من البذاءات والخرافات والتفاهات وبدلا من أن يقاوم هذا القبح، يستسلم له ثم يتعايش معه وأخيرا يدمنه ثم يقاوم كل يد تحاول أن تنتشله من براثن هذا الإدمان .
مجتمع الذي حافظ علي هويته خلال ثماني عقود من الإحتلال الإنجليزي و وثلاث عقود أخري من الإحتلال الفرنسي بكل أدواته الثقافية الرهيبة هو نفس المجتمع الذي يتخلي طوعاً عن هويته مقابل هذا المسخ الذين يسمونه إعلاما .
تخيل هذا المجتمع الذي شغله في وقت ما قضية مثل التى أثارها طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي تشغله اليوم الخرافة والكذبة والفضيحة أكثر من أي شيء
تخيل هذا المجتمع الذي عرف معني الجمال في أبسط الأشياء هو نفس المجتمع الذي فقد الإحساس بالجمال وتذوق الجمال رغم ما يحيط به الآن من وسائل لم تكن متاحة له من قبل.
تخيل هذا المجتمع الذي كانت مبانيه قمة في الذوق المعماري والهندسي يتعايش اليوم مع قطع خرسانية صماء تسمى عقارات وأبراج..!
تخيل مفردات المجتمع التي كانت تمثل قمة الذوق والاحترام والتقدير حتى بين أفراد الطبقات الشعبية البسيطة تصير بهذه السماجة والفظاعة ولا أريد أن أوصفها بحقيقتها التي تنحط إلى أبعد من ذلك بكثير .
لم يعد يغضبنا القبح وتعايشنا معه والنتيجة أننا أضحينا أضعف من مجرد التفكير في مقاومته .
أنا أكتب شخصيا هذه الكلمات و أعلم أنها لن تكون أكثر من صرخات في البرية .
لكن كل ما أملك أن أقوله ورغم اي شىء قاوموا القبح .. فربما يأتي يوم نتذكر فيه كم كنا أجمل بكثير في ماض كان بسيطاً وكم صرنا مشوهون وسط حاضر صاخب يسمونه كذبا تقدم .
قاوموا القبح فنحن المعادلة.. عقدتها... وحلها .