استوقفتني بعض الفقرات من كتاب القصة القصيرة "حقيبة في يد مسافر" لأستاذنا يحيى حقي، والذي كان يقول فيها:"فإن أردت أن تعرف استطعت أن تعرف بنفسك: بجهدك أنت وحدك، تعرف كل ما تريد أن تعرفه، بل تعرف كل ما يمكن لإنسان أن يعرفه، بسهولة ليست بعدها سهولة، هل لي أن أسمي هذه الحالة بفن التستيف؟".
وقد ذكرني ذلك بما مررت به في سفري ومن خلال بعض التجارب الشخصية.
حيث لا أجد فيما يقوله وجه استعجاب، خصوصاً أن مع مرور سنوات عدة لم يتغير شيئاً فيما هو أسماه "التستيف" كحالة مختلفة بين الشرق والغرب.
ويرجع بي الزمن، حين كنت صغيرة السن وكنت طفلة ، كنت دائمة الاستفسارات، ودائمة الحركة، أو كما يقال بالعامية المصرية "شقية". فكان لدي من الفضول واكتشاف الواقع من حولي الكفيل والكافي لإثارة انتباه من حولي.
فلم أكن أفوت أي فرصة أو أي معلومة إلا أسأل واستفسر كنوع من الفضول وإعمال العقل.
ظللت كذلك لسن المراهقة، وتحولت طاقة الأسئلة اللطيفة، لطاقة إزعاج من حولي (أحياناً).
لكني لم أكترث لذلك، فقد كان بداخلي حب للمعرفة يفوق الحدود.
الأمر الذي جعل مديرة المدرسة تستقدم والدتي لتوجيه سلوكي.
في أمر وإشادة اعتز بها للدور التربوي وليس فقط التعليمي الذي تقوم به المدارس الأصيلة والمحترمة.
وبالتأكيد كان هذا اللقاء في غيابي، وبحضور بعض المدرسات بفصلي وكذا مسؤول الطب النفسي والاجتماعي بالمدرسة.
وكان نصيحتهم لوالدتي أن توجه طاقة الأسئلة بداخلي إلى كتابتها بورقة ثم مناقشتها لاحقاً.
وذلك كعامل توافقي بين مصلحة الطالب وفي ذات الوقت الحفاظ على وقت الحصص الدراسية والفصول.
جرى بي العمر رويداً لحين بداية دراستي بالقسم الفرنسي بحقوق عين شمس، على يد الأساتذة الفرنسيين، والذين رءوا المسألة بشكل آخر، ووجهوها توجيها مختلفا.
ميزة وليس عيبا
فقد لاحظوا في هذه السمة ميزة وليس عيبا، او بالأحرى، حولوا العيوب إلى ميزات.
وإن كانت كثرة الأسئلة والتي تعبر عن الفضول وحب المعرفة قد تكون للبعض إزعاجا، وجد البعض الآخر فيها ميزة ووجهوها التوجيه البحثي.
فمنذ اليوم الأول بالجامعة وإذ لاحظوا في هذه السمة فكان البروفيسور يقول لي ابحثي على الانترنت خصوصاً مع تطور وسائل المعرفة وسأنتظر منك الرد غدا.
فقد وجهوا حب المعرفة توجيه رشيد ومفيد لي ولغيري.
مفيد لي لأنه ربى لدي الباحثة المستقبلية ومفيد لغيري لأن قراءتي عادة ما تجعلني اتحاور واتشاور مع الآخرين من أجل المعرفة.
ازداد الاتجاه البحثي لدي والاعتماد على الذات في إيجاد وبناء المعلومة ثم المعرفة، في فترة الدكتوراه في فرنسا، خصوصاً وأن طبيعة الحياة في هذه البلاد تزيد من اعتماد الشخص على نفسه كلية دون الاعتماد على أحد ودون العشم في أحد.
فحين قرأت في قصة الأستاذ يحيى حقي "كلام بلا تستيف" ما عبر عنه بعبارة التستيف وما حدث له في المطار ما بين القاهرة وباريس، أعاد إلى ذاكرتي العديد من المواقف وخصوصاً خصلة البحث عن المعلومة حين تكون لبناء الذات.
حري بنا، خصوصاً في عصر الانفتاح والانترنت، وتزايد سبل وطرق المعرفة، ما بين العالم الورقي والعالم الافتراضي، أن نوجه أبناءنا نحو الاعتماد على الذات في الوصول للمعلومة، لما في ذلك من لذة وطعم مميز يسعد به لحظة بلحظة لاسيما عندما يعلم أنه يبني بنفسه ولنفسه عالما خاصا بيديه وبعقله مستقل وفريد ومميز عن غيره.
فلنيقن تماماً أن لكل منا بصمته الخاصة والوحيدة.
--------------------
سلسلة جديدة تطلقها الدكتورة يسرا شعبان لمشاركة التجارب حول السفر
مدرس القانون بكلية الحقوق جامعة عين شمس