في خضم انتشار التكنولوجيا، وفي عصر الانفجار المعلوماتي، ووفرة البيانات، وسهولة الحصول عليها عبر المصادر المختلفة، وتعرض الجماهير لفيض هائل من المحتوي الاتصالي الرقمي؛ ظهرت من بين ثنايا هذا الواقع الافتراضي ما يمكن أن نطلق عليه "صناعة الجدل"، وهي صناعة لم تعرف لها البشرية نظيرا مثلما عرفتها في عصرنا الراهن وفي أيامنا الحالية بتقنياتها، وأدواتها، وضخامة بياناتها، ووفرة معلوماتها، وزخم أحداثها، وكثرة تفاعلاتها. وقد بزغت هذه الظاهرة الجديدة علي مجتمعاتنا، وأصبحت واضحة جلية كوضوح الشمس في رابعة النهار، وكان لها من التأثير في أفكارنا ومعتقداتنا، وأنماط استهلاكنا للمحتوي الرقمي، والتعرض المفرط للمعلومات الغزيرة، والمحتويات الرائجة التي استغرقت جل أوقاتنا، ما أصبح ظاهرا للعيان، بعدما حولت الجميع إلي مستهلكين لها، منغمسين في مناقشتها، خائضين في قضاياها وأحداثها طارحين لآراءنا فيها بما لا يخطر علي بال أحد.
وقد لاقت هذه الصناعة رواجا كبيرا وانتشارا هائلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، وأصبح لها روادها وجماهيرها التي أقبلت عليها بشكل كبير لتتصدر هذه الصناعة الساحة الافتراضية، وتنتشر بين عموم المستخدمين الذين أطلقت لهم تكنولوجيا الاتصال العنان ليتحدثون في كل شيء، ويبدون رأيهم فيما يعرفون، وقد وصل بهم الحال إلي أنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويتحدثون فيما لا يفقهون.
ولم تترك هذه الصناعة رافدا من الروافد، ولا مجالا من المجالات، ولا فرعا من العلوم أو الثقافات إلا وتركت بصمة واضحة جلية فيه؛ فالجميع علي علم ودراية بشتي العلوم، وعلي بصيرة بكل الأمور..الكل يمتلك القدرة علي الحوار والمناقشة ليتم معالجة القضايا وتناولها بعيدا عن التخصص، والتعمق، والفهم الصحيح لينخر السوس في عظام الفكر، وتنتشر الضحالة، والجهالة، والعشوائية، والتسطيح، والتهميش، ويتم تغييب العقل، والاعتماد علي الخرافات، والسجالات الفارغة، ويعم الجدال الفضاء الإلكتروني الواسع الفسيح.
وبانتشار هذه الصناعة تحولت ساحة الفكر لسوق كبير للجدال الضار، والنقاش غير المجدي الذي لا يفيد؛ بعدما كان "الجدال" قديما يتوغل ببطء بين أطياف الجماهير المختلفة، ,حينما تبزغ قضية من القضايا، يتحدث الناس عنها، ثم يخفت ضؤوها، ويذهب بريقها بعد ساعات أو أيام معدودة لانتشارها علي نطاق ضيق بين عموم الجماهير، عبر الصحف والراديو والتليفزيون، تتلقفها أيادي الجمهور، تلوكها الألسنة، يدلوا كل واحد بدلوه في نطاق الأسرة والأصدقاء، ورفقاء العمل، ينموا الفكر، وتزداد الرؤي، ثم ما تلبث أن يطويها النسيان، وتظهر جدلية أخري تدور في نفس الدائرة حتي تتوه في غياهب الأحداث التي لا تنتهي، والقضايا والأحداث الدائرة...وهكذا دواليك.
أما عصرنا الراهن فليس من الغريب أو المستبعد أن نطلق عليه"عصر الجدل"، ففي عصر وفرة المعلومات وتقنيات الاتصال والسماوات المفتوحة والقرية الكونية الصغيرة، والتغلب علي قيود الزمان والمكان والحواجز الجغرافية أتيح للجميع أن يعرف كل شيء، وأن يتحدث عن أي شيء، وأن يجوب العالم بأسره في لحظات، وهو جالس علي أريكته لا يبرح مكانه بلمسة علي هاتفه المحمول أو جهازه اللوحي أو الكمبيوتر الشخصي، وأن يتحدث في أي أمر دون قيود أو ضوابط، ودون معرفة ثاقبة، وأصبح الباب مفتوحا أمام الجميع لينازل في ساحة الجدال والنقاش، مبديا رأيه، طارحا وجهة نظره فيما يعرفه وما لا يعرفه.
ولمزيد من الرواج ل"صناعة الجدل" عبر الواقع الافتراضي تهافت الجميع علي نشر المحتوي الهابط والضار عبر المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، واعتمد البعض علي الغرابة، والطرافة، والإثارة ليتصدر محركات البحث، ويحجز له مكانا بين الأكثر رواجا وانتشارا بين الجماهير لتزداد هذا الصناعة نموا وازدهارا، بعيدة كل البعد عن المسئولية الاجتماعية والقيم الأخلاقية، واستنفادا للطاقات والأوقات فيما لا يحقق النفع والفائدة.
ولعل انتشار هذه الظاهرة، وتغول هذه الصناعة في عصرنا الراهن يعد ناقوس خطر يجعلنا نسلط الضوء علي الآثار الضارة للإفراط في التعرض لمواقع التواصل الاجتماعي، ونوجه جل اهتمامنا لمعرفة أسباب التوجه نحوها، وتفريغ الجمهور لطاقاته الكامنة، وتضييع أوقاته في متابعة ومناقشة ما يفيد وما لا يفيد قبل أن نستيقظ من رقادنا العميق علي خطر داهم لا نستطيع مواجهته أو التغلب عليه، وقبل أن تسيطر هذه الصناعة علي الجميع.
ولزاما علينا أن نبذل قصاري جهدنا، ونوجه طاقاتنا لتوعية الجمهور بهذا الخطر، وتوضيح تبعاته وآثاره، وإكسابه مهارات التعامل الرشيد مع البيئة الافتراضية، واستغلال مميزاتها، وتجنب أخطارها وتبعاتها التي جعلت "الجدل" آفة من آفات العصر الرقمي انزلق إليها الجميع.