الخميس 19 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

الميل، العاطفة، الراحة النفسية، القبول، الألفة.
هذه المعاني كلها كثيرًا ما تشكل انطباعنا عن الناس والحكم عليهم والرأي فيهم، والذي يكون في الغالب بعيدًا عن الحقيقة والانصاف والرأي القويم السديد.
وكثير ممن يصرحون بالبغض أو الميل لبعض الناس، إنما يكون الهوى والغرض مبعث هذا الرأي ومنشأه، وهو الشعور العجيب الذي يرفض أي مساحة من المراجعة أو إعادة النظر في شأن من ختمناهم وطبعنا عليهم بمشاعرنا، ذلك أن الشعور أعمى لا يرى، ظالم جائر لا يرحم أو يعدل.
والحكماء وحدهم من يدركون سلطان العاطفة الغاشم، ويوقفونه عند حده.
شيء عجيب جدًا أن ترى مثقفًا كبيرًا وعقلا جليلا، يبدي رأيه في قامة سامقة، فإذا به يهوي به إلى الأرض، ويجرده من كل قيمة وتميز وتفرد.
وأنت تتعجب أكثر أن يقال مثل هذا الرأي ويصدر في حق مفكر أسطورة، مثل وجوده في الماضي القريب معجزة ثقافية، معجزة عقل أو معجزة قلم، انحنت أمامه كل الأقلام.. وسماه سعد بالكاتب الجبار.
ولو أن مثل هذا الرأي قيل في إنسان متوسط الموهبة، أو غير ضالع في مسار الابداع، لسلمنا به واعتقدناه، أما أن يقال في كاتب يُنعت بالعملاق، فلا شك أن هناك عامل نفسي صنع هذه الغرابة، أو لمحة من عوارض الذات هي التي أنبتت بذور هذا الرأي لينمو مع الايام، ويشكل حاجزًا نفسيًا وقناعة ذاتية شخصية لا يمكن تجاوزها.
ولعل هذا يُعطي بعض العزاء لمن يبدون آراءهم في كثير من العمالقة وهم دونهم، فبعض الناس يُخفي أن يبدي رأيه السلبي في قامة أدبية سامقة، خشية أن يتهم هو بالجهل وانحدار المستوى الذي لم يبلغ به، حتى يعي جمال من لا يروقه أسلوبه، لكننا نؤكد أن القراءة والأدب شيء يرتبط بالذوق كغيره من حاجيات الحياة، التي تختلف فيها أذواق الناس، فهذا الأسلوب يروقني وغيره لا أحبه أو يستميلني.
فما الضير إذن أن يُعلن المرء نفرته من أسلوب كاتب ما؛ ما دام المرجع إلى الذوق الذي يختلف من إنسان لآخر.
منذ أيام طالعت رأي المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان في مذكراته عن الأستاذ العقاد وأسلوبه، والرجل لم يغمط العقاد حقه، واعترف أنه كاتب كبير، لكنه كشف النقاب عن مشكلة العاطفة التي استهللنا بها مقالنا، وأكدنا أنها البوصلة التي توجه الآراء والأحكام لكثير من الناس في كثير من انطباعاتهم تجاه من حولهم.
يقول عنان: 
" إنني لم أكن أتعاطف مع العقاد، ولم أكن أذهب في تقدير أدبه إلى المدى الذي يذهب اليه كثير من الشباب الذين يلتفون حوله، ويحضرون ندواته. والعقاد كاتب كبير بلا شك، ومؤلف خصب وافر الانتاج. 

ولكن معظم كتبه التي بداها بالفصول النقدية والعبقريات الخالية من كل مادة علمية حقيقية، ثم أعقبها بسلسلة طويلة من الكتب المختلفة، التي لم تكن على الأغلب سوى خلاصة لما يهضمه من قراءة بعض المؤلفات الاجنبية الحديثة، ولم تكن تجذب اهتمامی، وأسلوبه بالرغم من سلامته العربية ، أسلوب جاف، بعيد عن الجزالة، التي يمتاز بها أسلوب زميله وصديقه المازني واشراقه. أضف الى ذلك ما كان يتسم به العقاد من التعالى والغطرسة والغرور الذي لا نهاية له . وهذا كله مما كان يبعدني عن التعاطف معه."
عنان هنا يعترف أن في العقاد صفات لا يحبها وهي التي اختتم بها رأيه في العقاد وهي " ما كان يتسم به العقاد من التعالى والغطرسة والغرور الذي لا نهاية له . وهذا كله مما كان يبعدني عن التعاطف معه." 
وهنا لم يقف نقد عنان للعقاد إلى مسألة الأدب والأسلوب والتعبير، ولكنه تعدى إلى العاطفة والتكوين النفسي السلبي تجاه العقاد، وهو الذي جعله يعزف عنه تمامًا ولا يحب القراءة له، بل يمكن أن نقول بكل صراحة: إن البغض النفسي إذا تحقق تجاه شخص ما، لا يستطيع المرء أن يرى أي حسنة فيه، بل كل ما فيه مبغوض غير مقبول..


ورأي عنان في الحقيقة رأي رهيب جسور، ففيه يتجلى الناقد على أعلى ما يكون ظلما وجورا، على أنني أريد أن أنسب عدم الفهم لهذا الناقد، ولكني لا أستطيع أن أفعل ذلك، لأنه قامة علمية مشهود لها.
لكنني ومن خلال نصه السابق ندرك بقوة أن المسألة نفسية، وأنه يطلق نقده منبعثا من هذه النفس التي لا تحب العقاد. 
ونفس الحال أراه مع أعلام كبار في اللغة والأدب يعلنون بلا تحفظ بغضهم للعملاق الكبير، وكل ذلك لا لأن أدبه دون المستوى الذي ينشدون، ولكنهم من عشاق الرافعي، والرافعي من خصوم العقاد، وما دام العقاد خصمًا للرافعي، فهو أيضا خصم لهم لأنهم يعشقون الرافعي.
المسألة إذن في كثير من النقدات مبعثها الهوى والعاطفة لا العلم والإنصاف.

تم نسخ الرابط