أجمع المؤرخون علي أن الهجرة النبوية كانت حدثا عظيما غير مجري التاريخ، وأثر في حياة البشرية كلها، وأحدث نقلة نوعية لرسالة هي أعظم الرسالات وأكثرها تأثيرا علي ظهر الأرض، وأنها كانت أنموذجا يحتذي في تحقيق الآمال المنشودة والغايات الإنسانية المفقودة.
وقد قامت هذه الرحلة المباركة علي إعلاء كلمة الحق، ودحض الباطل ليعم النور والخير أرجاء الكون، وتتبدد ظلمة الجهالة لتنعم البشرية بالعدل والأخوة والمساواة، ويتوافد الناس للدخول في دين الإسلام، ويعيش المسلمون في أمن وأمان بعد رحلة معاناة جمعت بين طياتها أنواع الصعاب والمشاق.
وقد جاءت الهجرة لتكون فتحا مبينا ونصرا مؤزرا، وبداية عهد دعوي واتصالي جديد نسي معه المسلمون ما لاقوه من حصار واضطهاد وتنكيل وتعذيب، وانتقلوا من ضيق الجور والقهر والعبودية إلي رحابة الإيمان والسعي الدؤوب والبذل والجهد لخدمة الأديان والأوطان... لقد كان الخروج للهجرة بمثابة طوق نجاة تنفس معه المسلمون الصعداء في تظاهرة حب ومودة وشغف باللقاء، في بيئة إنسانية واجتماعية واتصالية رائعة اصطبغت بصبغة المحبة والصدق والإيثار والمؤاخاة، وبزغ في ضوء نورها التواصل الإنساني والحضاري الرفيع الذي علم الدنيا قاطبة كيف يكون التواصل، وكيف يتحقق الهدف الدعوي في أنموذج فريد حير العلماء والباحثين والمفكرين، وأصبح مجالا خصبا للبحث والتفكر والتأمل والدراسة في المدارس والمذاهب الفكرية المختلفة.
ومن المسلمات التي لا تقبل الجدال أو النقاش أن ذكري الهجرة النبوية نفحة طيبة مباركة يتجدد عبقها وشذاها عاما بعد عام، وتتوق النفس إلي الحديث عنها، واستخلاص العبر والعظات من أحداثها، فقد بقيت علي مر الدهور دليل ناطق وبرهان ساطع علي عبقرية الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم، وضربه أروع الأمثلة في الاتصال الناجح وحسن التدبير وإحكام الأمر، والتخطيط الرائع الذي كان من أبرز مقومات نجاح الهجرة المباركة، وتحقيقها الهدف الأسمي والغاية العظمي، وهي البلاغ عن شريعة الله، والعيش في كنف المودة والمحبة والتواصل والتآخي بين المسلمين، وتحويل مسار البشرية تحولا جذريا حقق لها الأمن المجتمعي، والنبوغ الفكري، والتفوق الحضاري، و إعلاء القيم الإنسانية للبشرية جمعاء.
وهذه المسيرة الخالدة لا تخلو من دروس وعبر اتصالية نحتاج إليها في عالم اليوم جسدتها العقلية الماهرة المدبرة بالغة الحكمة التي أحسنت التخطيط، وأتقنت التنظيم، وأجادت الاتصال، وأصابت في اختيار رجالاتها الذين قاموا بأدوارهم في هذه الرحلة المباركة علي أروع ما يكون ليتجسد في قائدها صلوات ربي وسلامه عليه وصحبه الكرام مهارات الاتصال التنظيمي، والإلمام بفنون التخطيط والإدارة والتنظيم، و صدق الإيمان، وثبات اليقين، وحسن التوكل، والقدرة الاتصالية التي مكنت لهذه الرحلة أن تحقق أهدافها علي أفضل ما يكون.
وقد استلهم العلماء والأدباء والمفكرون من هذه الرحلة أروع المثل وأنسب القيم والقواعد الحاكمة للتخطيط والاتصال التنظيمي، ونسج بعض المفكرين والباحثين في ضوئها قيما وضوابط اتصالية سار الجميع علي دربها، وأصبحت مدرسة دعوية ومنهجا وأسلوبا اتصاليا يرفع له الجميع القبعة إجلالا وتكبيرا واحتراما كأعظم مسيرة اتصالية خالدة شهدها التاريخ الإنساني، لدعمها رسالة الدين الإسلامي الخالدة، وتمكين المجتمع الإسلامي من نشر الرسالة، وإظهار الحق، وإعلاء راية الإسلام خفاقة عالية في كل زمان ومكان لتنعم البشرية في بيئة ساد فيها التوافق المجتمعي، وإذكاء الجانب الخلقي، وإشباع الجانب الروحي.
وهناك بعض المواقف الاتصالية التي نستلهمها من رحلة الهجرة، والتي جسدها المصطفي صلي الله عليه وسلم لتكون مصباحا ينير الطريق للدعاة والقائمين بالاتصال في سبيل نجاح دعوتهم.
ومن بين هذه المواقف:_
١_ أن دعوة الإصلاح والأخذ بأيدي الناس من ظلمات الجهل إلي نور الإيمان إذا كانت غريبة علي معتقدات الجمهور وعقليته، فينبغي ألا يجهر بها الداعية حتي يقتنع برسالته عدد من المدعوين، يضحون في سبيلها بالغالي والنفيس، حتي إذا نال صاحب الدعوة أذي، قام أتباعه المؤمنون بدعوته بواجب الدعوة إلي الله، فيضمن بذلك المضي قدما في طريق الرسالة واستمرارها عبر الزمن.
٢_ أن الداعية أو القائم بالاتصال لا يقبل المساومة علي دعوته أو رسالته، ولا يتخلي عنها لمغنم من مال أو جاه أو سلطان، وهذا دليل علي صدق رسالته، وحرصه الشديد علي هداية الناس، وعلي تبليغ رسالته الدعويه، وترفعه عن المغانم الشخصية، وإن كلفه ذلك الكثير والكثير، واستغني عن العيش الرغيد والمال والوفير، واستقر مضجعه علي حبات الرمال أو التراب أو الحصير.
٣_ أن الداعية يستمر في دعوته متسلحا بقوة عزيمته ؛ وإن طاله الأذي، وإن تألب عليه المبطلون، وفي هذا راحة لضميره وقلبه، ونجاحا لرسالته، وتأكيدا لمصداقيته، واستنهاضا لهمم مدعويه لتحمل الأذي والصعاب ووعورة الطريق.
٤_ أن الداعية يتواصل مع أنصار دعوته وجماهيره باستمرار ليزيدهم إيمانا بدعوته، وليعلمهم طرقها وأساليبها وآدابها، ويبعث في نفوسهم الأمل في الغد المشرق والمستقبل الواعد.
٥_ أن الداعية يعمل علي توطيد أواصر التعاون والترابط بينه وبين جمهوره..يفرح لأفراحهم، ويتألم لآلامهم، ويوفر لهم سبل الأمان النفسي والأمن المجتمعي، وهذا يؤكد علي أن وشيجة الدين هي أوثق الوشائج، وأن الأخوة الحقيقية من أهم أسباب نجاح الدعوة أو الرسالة الاتصالية.
٦_ أن الداعية يكون علي بصيرة من أمر دعوته، وعلي وعي ودراية بمكائد الأعداء وما يحيكونه ويدبرونه لإفشال دعوته ليستطيع مجابهتم ومقاومتهم والتغلب عليهم لينتصر لدعوته، ويمهد الطريق لاستمرار دعوته وتحقيقها لغاياتها التي تحقق الخير والعدل والمساواة بين الجميع.
٧_ أن الداعية الناجح يستحوذ علي القلوب ويؤثر في وجدان جماهيره ليتجدد داخلهم شغف اللقاء، وينبض داخل قلوبهم أكسير المحبة الذي ظهر جليا في قيمة عظمي من قيم الإسلام، وهي قيمة الإيثار.
وختاما ..فمن المؤكد أن الدروس والعبر الاتصالية التي نستلهمها من الهجرة لا نستطيع أن نسردها في كلمات، أو نعبر عنها في كتابات أو أطروحات مهما بلغ تصورنا لها أو تحليلنا لأحداثها ووقائعها، أو فهمنا لأبعادها وخصائصها ومكوناتها؛ لكنه غيض من فيض وقليل من كثير في رحلة إيمانية مباركة تتجدد عاما بعد عام، ويتجدد معها الحديث الذي تطرب له الأسماع، وتألفه القلوب، وتتوق إليه الأنفس، ويستقر به الوجدان، ويزداد به محبة صاحب الرسالة النبي العدنان، وتستلهم منه البشرية ما يصحح مسار حياتها عبر القرون والأزمان.