جُبِلَ الناس و فُطِروا علي السهو والنسيان والتقصير والنقص و الخطأ ، ولا يوجد إنسان علي وجه البسيطة معصوم من ذلك إلا الأنبياء والرسل الكرام بعصمة الله لهم .
وكان لتلك الجبلة - فيما أري - حكمة في أن يتواصل الناس ويتكاملوا فيما بينهم ، ومن أوجه التكامل ومظاهره التناصح ، ومنه النقد البناء الشريف العفيف الهادف ،ومن معانيه أنه تمييز للجيد من الردئ، أو إن شئت فقل: إظهار لمحاسن الشيء ولعيوبه.
وفرق بين رؤية الخطأ متيقنا أو مظنونا وبين ادعائه أو اختلاقه زوراً وبهتاناً للتشهير والتشنيع والانتقاص .
وفرق - أيضا - بين النقد علي بصيرة وبين التهور وادعاء الشجاعة و ادعاء -أيضا- الجرأة في الحق وزعمها .
والناقد الأمين هو الذي يبدي ملاحظاته حول أمر ما ابتغاء إتمامه وإكماله، أو لتصويب خطأ فيه بَيِّن .
ولكي يكون النقد موضوعيا مقبولاً ينبغي أن يتيقن الناقد من النقص أو الخطأ فيما ينقده وذلك في الأمور الثابتة شرعا أو عرفا أو كان خلقا اتفق العقلاء عليه .
أما في الأمور المظنونة فيكون النقد علي سبيل الاجتهاد ،وابداء وجهة نظر ،ولا يتعدي ذلك بأي حال من الأحوال وإلا لكان الناقد صاحب هوي يحاكم الناس حسب ذوقه وعاداته هو، والأذواق والعادات مختلفة ومتعددة.
والنقد بطبيعته بغيض إلي النفوس ،ثقيل يشق سماعه وقبوله ، ومن ثم إن نقدت أحدا دون وجه صحيح للنقد ، أو كان الأسلوب جافاً غليظا ، أو كان أمام الآخرين ، أو أكثرت منه أضفت ثقلاً إلي ثقل النقد.
ولكي يكون النقد مقبولاً ويؤتي ثماره من التكامل والاستزادة من المعرفة والخبرة وغير ذلك كان حتماً أن يتحلي الناصح والمنصوح بٱداب النقد ، منها كما جاء عند بعض العلماء :
أولاً: الرفق والحلم، وقد ذكر العلماءُ -رحمهم الله تعالى- أنَّ من أراد أنْ يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكر، -والنقد من هذا الباب- فلا بد أنْ يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به أو ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به أو ينهى عنه، فكذلك ينبغي أنْ يكون الناقد عالما فيما ينقد، والرفقِ مع النقد والحلمِ بعد ذلك.
ثانيًا: أنْ يكون النقد سرا ؛ إمَّا بانفرادٍ، أو عند صُحبةٍ مُتآلفةٍ مُتحابَّة.
ثالثًا: أن تُقدِّم بين يديْ نقدك كلاماً جميلاً، وثناءً صحيحاً.
تأمل قول ربُّنَا -جلَّ جلاله- مُخاطبًا اليهودَ الضالين الظالمين، الْمَغضوبَ عليهم والْمُكذبين، بعد أنْ عدَّد ما منَّ عليهم من النعم والفضائل-: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: ٤٧] تأملوا كيف نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِه
قال العلامةُ مُحَمَّد رَشِيد رضا -رحمه الله تعالى-: "وَهَذَا أُسْلُوبٌ حَكِيمٌ فِي الْوَعْظِ، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ وَاعِظٍ، أَنْ يَبْدَأَ وَعْظَهُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الشَّرَفِ، وَشُعُورِ الْكَرَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمَوْعُوظِينَ؛ لِتَسْتَعِدَّ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ" ا.هـ. كلامُه -رحمه الله-.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حينما أراد توجيه نصح لابن عمرَ -رضي الله عنهما-، أثْنَى عليه ثناءً عطراً قبل وعظه ونصحه فقال: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ".
رابعًا: أنْ يكون ختامُ النقد بطريقةٍ ودية، وجملةٍ وعبارةٍ مُحفِّزة، فختام النقد والنصيحةِ بمثل ذلك، يُعين على تقبُّلها، وتطييبِ خاطرِ صاحبها ويعد ذلك من بلاغة الكلام إذ هو ٱخر كلام يسمعه المخاطب فإن كان حسنا استقره في نفسه وبقي في وجدانه.
خامسًا: أنْ يكون النقد موجهاً للفعل أو العمل الذي قام به ذلك الشخص، لا أنْ يكون النقد للشخص نفسه؛ فبعضُ الناس قد لا يُعجبه قولُ أو فعلُ أحدٍ من الناس، فيشتغلُ بنقدِ ذاتِه وتجريحِ شخصِه، وربما اتهم نيَّته وشكَّك في إخلاصه. وهذا من التعدي والظلم، فقد أختلفُ معك في رأيك وتصرُّفك، لكن لا يجوز أنْ أقدح فيك وأتهجَّم عليك.
وتأمل قول سعد بن أبي وقاص لرجل عندما كان بين خالدِ بن الوليد وسعدِ بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- كلامٌ وسوءُ تفاهم، فذهب ذلك الرجلٌ يقع في خالدٍ عند سعد بن أبي وقاص، فقال: "مه، إنَّ ما بَيْنَنَا لم يَبْلُغْ دِيْنَنَا".
سادسًا: أنْ يتخير الناقد الوقت المناسب لتقديم نصحه؛ فبعضُ الناس لا يُراعي الوقت المناسب في نقده، فيُوقعَ في نفس مَن نقده الحرجَ والألم.
سابعًا: التوازن بين الثناء والنقد؛ فلا يُعقل أنْ تُكثر من نقدِ أحدٍ مهما كان، دون أنْ يسمع منك ثناءً عطرا، أو مدحاً صادقاً؛ فالنفس البشرية لا تقبل مثل هذا، وترى أنَّ مَن ينقُدها ولا يُثني عليها، مُتحامل وحاقد، أو مُجحِف مُتتبع للزلاَّت.
ثامنًا: عدمُ الإكثار من النقد لشخصٍ واحد؛ فالإكثار منه يتحول إلى عداوةٍ أو سآمةٍ.
تاسعًا: لزوم الحسنى في المقال، وانتقاءُ اللفظ، وتخيُّر الكلمات، فـ"ما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا شانه"، والله -تعالى- أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء٥٣]، بل أمر بذلك جميع المؤمنين فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:٨٣].
فالواجب على الناقد أنْ يَنْتقيَ أحسن الألفاظ والعبارات، ويبتعدَ عن الأساليبِ التي تُثيرُ وتُؤْلم، وتُفسدُ ولا تُصلح.
هذا عن ٱداب الناقد أو الناصح، فماذا عن ٱداب المنصوح؟
هي أنْ يتقبل النصح بصدرٍ رحْب، ويَقْبَلَ ما جاء به الناصح من الحق ويعملَ به، ومن لم يقبلِ الحقّ فهو مُتكبر، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الكِبْر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناسِ"؛ فالمتكبر يرد الحق، ويُعرض عنه ولا يقبله؛ لأنه معتدّ برأيه، جازمٌ بصواب عمله، ومع ذلك يحتقر الناس ويزدريهم؛ لأنه يرى نفسه فوقهم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "من علامات الخشوع: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خُولِفَ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ: اسْتَقْبَلَ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ".
وقال -رحمه الله-: "لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ، حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ، وَمِمَّنْ تُبْغِضُ، فَتَقْبَلُهُ مِنْ عَدُوِّكَ، كَمَا تَقْبَلُهُ مِنْ وَلِيِّكَ" ا.هـ. كلامه.
ومن أعظم آدابه: شُكرُه على ذلك والثناءُ عليه؛ لأنه يعلم أنَّه ما نقده بأسلوبٍ لطيفٍ إلا من محبَّته له، وإشفاقِه عليه، ورجاء أن يدفع عنه وعن فعله النقص والخطأ.
وإنَّ من يُذَكِّرُنا بأخطائنا، ويُنبِّهُنا إلي عُيوبنا، فقد أسدى لنا معروفاً عظيماً، وجزاؤه أن نشكرَه ونُثنيَ عليه، ونأخذَ بقوله ونعملَ به، فهذا من علامةِ الإيمان وصفاءِ القلب ".
وفي الختام وإتماما للفائدة ألفت إلي أمر مهم هو أن النصح قد يختلف في ٱدابه باختلاف المنصوح ، فنصح ولي الأمر ،أو ذي سلطان أو صاحب مكانة مرموقة ليس كنصح العامة ؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وتكون هذه المناصحة بالرفق واللين والأسلوب الحسن، روى ابن أبي عاصم في السنة عن عياض بن غنم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه.
قال الإمام النووي -رحمه الله - في شرحه على صحيح مسلم: وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم، قال الخطابي -رحمه الله- : ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح.... انتهى.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الخلق والأدب