الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي


"إن لم يكن بإمكانك أن تصنع حياتك كما تشاء، فعلى الأقل حاول أن تفعل ذلك، لا تقلل من شأنها بكثرة الاحتكاك بالناس، وبالإفراط في حركاتك وكلماتك. لا تقلل من قدراتها بالتطواف هنا وهناك في زحمة العلاقات والمقابلات اليومية الحمقاء".
هكذا تحدث شاعر الإسكندرية الشهير قسطنطين كفافيس (1863 – 1933) محببًا الإنسان في العزلة والتوقف عن الكلام فيما لا يعنيه، وتجنب صخب الحياة والناس والعلاقات الإنسانية غير المُجدية، وكل ما يؤدي إلى تعكير صفاء ذهنه وتبديد طمأنينته الداخلية، وهدر واستنزاف عمره وإنسانيته ومواهبه وإمكاناته.
والعزلة التي تحدث عنها كفافيس هي عزلة إيجابية مثمرة، لا بد أن يصنعها الإنسان لنفسه - من وقت لآخر- كشكل من أشكال الاستشفاء الذاتي من أعباء الحياة وعبث الأحداث وتفاهات البشر، ولحماية وجوده الشخصي من الضياع في وجود الآخرين.
وهي شبيهة بالعزلة التي تحدث عنها الكاتب الأمريكي بول أوستر في كتابه "اختراع العزلة"، ووجدها ضرورة لتحقيق الصفاء العقلي والفكري، ووقودًا وفضاءً للكتابة، ومنبعًا للسعادة.
وهي أيضًا شبيهة بالوحدة التي تحدثت عنها، ودعت إلى صنعها الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس في كتابها "أن تكتب"، عندما قالت:
"نحن لا نجد الوحدة، وإنما نصنعها. وأنا صنعتها لأنني قررت أن هذا المكان هو الأليق بي لأكون وحيدة من أجل كتابة كتبي".
وفي حقيقة الأمر، فإن تلك العزلة، تُصفى الذهن، وتُوسع الرؤية، وتمنح الإنسان نظرة الطائر المُحلق، وتحقق له الوعي الفائق بالذات والآخر، وتمنحه الفرصة لتجديد حياته وأفكاره.
وهي عزلة مؤقتة واستراحة محارب، وليست اعتزالًا للحياة؛ عزلة يعود الإنسان بعدها للاستغراق في الحياة والواقع وحياته المهنية، وهو مُحصن من الداخل، وقادر على ألا يسمح لأحد بأن يستهلكه أو يستنزف وجوده فيما لا طائل منه.
لأن الاستغراق الدائم في حضور الآخرين ومتاهة الحياة اليومية والمهنية، لا ينتج علمًا ولا إبداعًا أصيلًا، ولا يُضيف جديدًا، ولا يجعل الإنسان في أغلب الأحيان مطمئنًا أو سعيدًا.
وفي ظل صخب وتشابك وقسوة الحياة المعاصرة، واستلاب وسائل الاتصال والتواصل الحديثة التي جعلت الإنسان مهدرًا، أصبح "اختراع العزلة" ضرورة من ضرورات الحياة، وحقا إنسانيا أصيلا يجب على الإنسان أن يمارسه من وقت لآخر لحماية وجوده الخاص من الهدر والاستنزاف المستمرين اللذين صارا طابع حياتنا المعاصرة.

تم نسخ الرابط