الأربعاء 03 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

أرست محكمة النقض العديد من المبادئ في مجال حماية الحقوق والحريات، ليس فقط التزاماً منها بالنصوص القانونية المكتوبة، ولكن أيضاً استناداً إلى روح الدستور والتشريعات القائمة وتلبيةً لحاجات المجتمع. ويشمل ذلك مجال حقوق الإنسان، التي يطلق عليها أيضاً الحقوق الطبيعية، وهي تلك الحقوق الأصلية والتي لا يمكن الاستغناء عنها والتي تحفظ للإنسان كرامته وخصوصيته.

وتتعدد مصادر القواعد القانونية التي يُطبقها القضاء على ما يُعرض عليه من دعاوى. ويجد الالتزام القضائي بحماية الحقوق والحريات أساسه في العديد من المصادر التي تُشكل مرجعية أساسية لقضاة محكمة النقض، مثل الاتفاقيات الدولية السارية، والدستور الذي رسخت نصوصه أحكام المحكمة الدستورية العليا، وكذا القوانين الجنائية الموضوعية والإجرائية، وقانون المرافعات المدنية والتجارية، وأحكام الشريعة الإسلامية.

ونتناول فيما يلي أهم المصادر التي تُعول عليها محكمة النقض في صياغة أحكامها في مجال حماية الحقوق والحريات وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان.

1- وثائق حقوق الإنسان الدولية:

تُعد قواعد حقوق الإنسان الدولية، خاصة تلك التي تتضمنها الاتفاقيات الدولية السارية من أهم المصادر التي يلجأ إليها المشرع الوطني ومن بعده القضاء الوطني عند التصدي للمسائل المتعلقة بحقوق الإنسان. هذا وقد عنيت الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان بمفاهيم العدل والإنصاف وحق الإنسان في أن تفصل في خصوماته سلطة قضائية مستقلة في محاكمة علنية عادلة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تتضمن ديباجة دستور 2014 إشارة صريحة إلى الاعلان العالمي لحقوق الإنسان كأحد المصادر الأساسية لأحكام الدستور، خاصة وأن مصر من بين الدول التي شاركت في صياغته ووافقت عليه، حسبما هو ورد بديباجته.

وطبقاً للمادة 93 من الدستور "تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر، وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً للأوضاع المقررة". وتبعاً لذلك، واحترامًا لتعهدات مصر الدولية، تلتزم محكمة النقض – وغيرها من المحاكم الوطنية - في قضائها بمبادئ حقوق الإنسان الواردة في الاتفاقيات الدولية المُصدق عليها.

ومن أهم الوثائق الدولية التي تعالج مبادئ حقوق الإنسان الدولية ذات الصلة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966. هذا وقد أورد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 العديد من الأحكام التي تعزز منظومة حقوق الإنسان أمام القضاء الوطني. ونضرب فيما يلي بعض الأمثلة لحقوق الإنسان الأساسية وثيقة الصلة بدور محكمة النقض في حماية الحقوق والحريات.

ففي مجال حماية الحرية الشخصية تنص المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه " لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفًا". ورسخ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية هذا الحق وعززه بنص المادة 9(1) منه التي تنص على أنه "لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفًا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه".

وفي مجال حماية حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وهو ما يُطلق عليه الحق في الخصوصية تنص المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته. ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات. ومن ناحيته عزز العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ذات الحق في مادته رقم 17 بنصه على أنه:

1- لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، للتدخل في خصوصياته أو شئون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته.

2- من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس.

وفي مجال تعزيز الحق في الالتجاء للقضاء، حرصت المواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان على تناول حق الإنسان في الالتجاء للقضاء، للفصل في منازعاته المدنية أو الجنائية، وإنصافه، من خلال قضاء مستقل وعلني ومحايد ونزيه. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل شخص حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه الدستور أو القانون". وفي مجال المساواة أمام القانون والمحاكمة المنصفة، تنص المادة 10 على أنه "لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفًا وعلنيًا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أية تهمة جزائية توجه إليه".

وذات الحقوق أكدها وتوسع فيها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، بنصه في المادة 14(1) على أنه "الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون".

وفي مجال إقرار أصل البراءة تنص المادة 11(أ) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه". ورسخ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 مبدأ أصل البراءة في مادته 14(2).

وتضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المبادئ التي يجب أن تتبناها التشريعات والنظم الوطنية لحماية الحقوق والحريات أثناء نظر الدعاوى الجنائية فنص في المادة 14(3) على أنه "لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية:

(أ) أن يتم إعلامه سريعا وبالتفصيل، وفي لغة يفهمها، بطبيعة التهمة الموجهة إليه وأسبابها،

(ب) أن يعطى من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه وللاتصال بمحام يختاره بنفسه،

(ج) أن يحاكم دون تأخير لا مبرر له،

(د) أن يحاكم حضوريًا وأن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختياره، وأن يخطر بحقه في وجود من يدافع عنه إذا لم يكن له من يدافع عنه، وأن تزوده المحكمة حكما، كلما كانت مصلحة العدالة تقتضي ذلك، بمحام يدافع عنه، دون تحميله أجرا على ذلك إذا كان لا يملك الوسائل الكافية لدفع هذا الأجر،

(هـ) أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام،

(د) أن يزود مجانا بمترجم إذا كان لا يفهم أو لا يتكلم اللغة المستخدمة في المحكمة،

(ز) ألا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب.

ومن مآثر محكمة النقض أنها قد أشارت في تسبيبالعديد من أحكامها لأهم الوثائق الدولية لحقوق الإنسان مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن محاكم الجنايات في مصر قد تجارت على الإشارة إلى أحكام الاتفاقيات الدولية ذات الصلة في أحكامها، بل إن البعض منها جعل أحكام الاتفاقية الدولية الأساس القانوني للفصل في الخصومة الجنائية المعروضة أمامها.

ومن القضايا الشهيرة في هذا الشأن، القضية التي أطلق عليها قضية "إضراب سائقي قطارات الهيئة القومية للسكك الحديدية"، حيث اعتنقت محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ مبدأ سمو المعاهدات الدولية على التشريعات الداخلية، وطبقت بطريقة مباشرة نص المادة الثامنة فقرة (د) من الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمتعلقة بممارسة الحق في الإضراب، حيث انتهت المحكمة إلى القضاء ببراءة جميع المتهمين في هذه القضية تأسيساً على أنه بانضمام مصر إلى العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يبيح الحق في الإضراب، وبعد نشره في الجريدة الرسمية حسب الأوضاع المقررة، يُعد قانوناً من قوانين الدولة، يتعين على القضاء الوطني تطبيق أحكامه، وبالتالي فإن أحكام هذا العهد الذي يبيح حق الإضراب تلغي ضمناً نص المادة 124 من قانون العقوبات المصري التي تجرم ذات الفعلومن ثم انتهت المحكمة إلى أن تهمة تعطيل سير القطارات والإضرار العمدي بأموال ومصالح هيئة السكك الحديدية قد قامت على غير أساس، إذ أن امتناع المتهمين عن العمل – وما ترتب عليه – ما كان إلا في إطار استعمالهم لحق مقرر قانوناً وفي هذا النص أعلت المحكمة أحكام اتفاقية دولية على القانون الداخلي وهذا الحكم يدلل على منهج القضاء المصري في الأخذ بأحكام الاتفاقيات الدولية السارية ومنها الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.  

 والمتتبع لأحكام محكمة النقض في قضاء الحقوق والحريات سوف يجد أنها طبقت بالفعل مضمونالمفاهيم الواردة بالوثائق الدولية السابقة، وأن قضائها يدلل على أنها لا تحيد عن القواعد المتقدمة ومفاهيم حقوق الإنسان حسبما هي معرفة به في الوثائق الدولية تُعد مصدرا أساسيا لمضمون الحقوق والحريات التي يتناولها الدستور.

2- أحكام الدستور:

تمثل الحماية الدستورية للحقوق والحريات أهم الدعائم الدستورية للقانون بجميع فروعه في النظم القانونية الوطنية، حين ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع ويوازن بين هذه الحقوق والحريات بين المصلحة العامة، ويُعد القانون الجنائي أكثر فروع القانون تأثرًا بهذه الحماية.

ويرى جانب من الفقه المصري أن حقوق الإنسان بصورها المختلفة إذا تمتعت بالحماية الدستورية أصبحت حقوقًا أساسية ويسري هذا بطبيعة الحال على الحقوق التي عالجتها الوثائق الدولية التي أشرنا إليها أعلاه.

وإن القارئ لأحكام محكمة النقض سوف يتبين أن قضاءها قد جرى على تبجيل أحكام الدستور باعتباره القانون الوضعي الأسمى صاحب الصدارة وبالتالي فإن الدستور يُشكل أحد مصادر القانون واجب التطبيق أمام محكمة النقض، التي لا يجوز مخالفتها.

هذا وقد خصص المشرع الدستوري الباب الثالث من دستور 2014 للمبادئ المتعلقة بالحقوق والحريات والواجبات العامة، كما خصص الباب الرابع منه لتكريس مبادئ سيادة القانون، وتقرير بعض المبادئ المهمة المتعلقة بقرينة البراءة، وحق التقاضي، وحماية الحرية الشخصية، والحق في الخصوصية.

ولا ينكر منصف أن دستور 2014 قد حقق نقلة نوعية كبيرة بتكريسه لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية، وأولى حماية بالغة للكرامة الإنسانية، فأكد في مادته 51 في عبارات قاطعة أن "الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها"، وأكد في مادته 53 أن المواطنون متساوون أمام القانون، وأن "التمييز جريمة يعاقب عليها القانون"، وكرس مفاهيم الحرية الشخصية في مادتيه 54 و55، كما أكد في مادته 92 أن "الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصاً، ولا يجوز لأي قانون تقييدها بما يمس أصلها وجوهرها" وبطبيعة الحال فقد أكد الدستور المصري في المادة 94 على أن "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة وتخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء، وحصانته، وحيدته، ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات".

ومن المُلاحظ أن الدستور قد رفع بعض القواعد ذات الطبيعة الجنائية التي تعكس مبادئ حقوق الإنسان التي تضمنتها الوثائق الدولية سالفة الذكر إلى مصافالقواعد الدستورية فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بمبدأ الشرعية الجنائية، تنص المادة 95 منه على أن "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".

كما كرس مبدأ أصل البراءة بتقريره في مادته 96(1) أن "المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه".

وفي مجال إقرار حقوق المتهمين والمقبوض عليهم تنص المادة 55 من الدستور على أنه "كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًا وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقا للقانون". كما أكدت ذات المادة في فقرتها الثانية على أنه "للمتهم حق الصمت. وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه، يهدر ولا يعول عليه".

وهناك العديد من الأحكام التي ذكرت فيها محكمة النقض حقوق الإنسان الأساسية الواردة في الاتفاقيات الدولية، واستهلت فيها قضائها بالإشارة إلى أحكام الدستور وقضاء المحكمة الدستورية العليا الصادرة ترتيبًا عليه، خاصة في مجال حماية وترسيخ الحقوق والحريات، ومن ذلك حماية أصل البراءة، على النحو الذي نوضحه تفصيلًا لاحقًا.

3- أحكام قانون العقوبات:

إن المُطَلّع على أحكام الدستور، سوف يتبين أنها تُقرر حقوقًا أو حريات عامة، ويُفرغها في قالب نظري من خلال صياغة موجزة قد لا تكفي بذاتها لكفالة التطبيق الدقيق لها، أو فرض احترامها على السلطات العامة والأفراد، ومن ثم يتدخل القانون الجنائي، موضوعياً متمثلًا في قانون العقوبات، أو إجرائيًا متمثلًا في قانون الإجراءات الجنائية، لكي يُقرر للاعتداء على الحق المحمي جزاءً أو ينظم إجراءات تعزيز الحق وحمايته، على النحو الواضح في مبدأ "شرعية الجرائم والعقوبات"، ومبدأ "حرمة المسكن"، ومبدأ "أصل البراءة"، ومبدأ "المحاكمة العادلة أو المنصفة".

وفيما يتعلق بقانون العقوبات، فإن هناك العديد من المبادئ الدستورية التي أفرغها في أحكام تفصيلية. ونضرب مثالًا لذلك بمبدأ "شرعية الجرائم والعقوبات"، الذي يتصل اتصالًا وثيقًا بالحريات العامة وحقوق الأفراد. فقد كرس الدستور المصري في مراحله المتتالية هذا المبدأ، وتبناه دستور 2014 في مادته رقم 95 بنصه على أن "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون". فأعمل قانون العقوبات مبدأ الشرعية بتقريره العقوبات على الأفعال التي حظرها المشرع الجنائي، فضلًا عن المبدأ العام الذي كرسه بمادته الخامسة بنصه على أن على أنه "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها".

كما نجد مثلًا واضحًا في كيفية إعمال قانون العقوبات لأحكام الدستور المتعلقة بحماية الحق في حرمة الحياة الخاصة للمواطنين بنص المادة 128 من قانون العقوبات والتي أثمت الدخول غير المشروع للمساكن من قبل أحد الموظفين العموميين، وبالتالي فقد كرس هذا النص جوهر حكم المادة 58 من الدستور التي أضفت على المساكن حصانة وحرمة بالغة باعتبارها موضع سر الشخص وموطن حرمة حياته الخاصة.

مثال آخر لإنفاذ قانون العقوبات لمبادئ حقوق الإنسان الدولية التي رسخها المشرع الدستوري، للحق في الخصوصية - فيما نصت عليه المادة 57 من الدستور من أن "للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التي يبينها القانون". فكرس قانون العقوبات مبدأ حرمة الحياة الخاصة، وتكفلت بعد ذلك المادتان 309 مكرر، و309 مكرر(أ) ببيان الجرائم المترتبة على الاعتداء على هذا الحق، ووضعت الجزاءات الجنائية عليها. وعلة النص الدستوري، والنصين العقابيين المستندين إليه هي حماية حق كل شخص في أن تكون لحياته الخاصة حرمتها، وأن تُحاط بسياج من السرية، فلا ينفذ منه شخص إلا برضا من صاحب هذه الحياة وما تتمتع به من خصوصية.

 

4- أحكام قانون الإجراءات الجنائية:

لا غرو في أنه لقانون الإجراءات الجنائية وظيفة مهمة في إجراءات الدعوى الجنائية، فهو ينظم من ناحية أولى وسيلة الدولة في مباشرة حقها في الدعوى الجنائية، ومن ناحية ثانية يوفر الضمانات اللازمة لحقوق المتهم الإجرائية، التي تتبلور حول المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وإن اهتمام قانون الإجراءات الجنائية بكفالة حقوق الدفاع، وحماية كرامة المتهم وحقوقه الأساسية هو وفاء بالتزام دستوري بصيانة الحريات العامة. هذا وقد كرس قانون الإجراءات الجنائية والتعديلات المتعاقبة الحاصلة عليه الضمانات الدولية المتعلقة بالمعايير الخاصة بإدارة العدالة الجنائية بالنسبة للتحقيقات الجنائية، والقبض، والتفتيش، والاحتجاز، والمحاكمات الجنائية، وسبل الطعن عليها.

وكما سوف نرى لاحقًا، فإن الإجراءات التي ينظمها قانون الإجراءات الجنائية ليست مجرد وسائل فنية بحتة، بل إنها قد تمس الحرية الشخصية وغيرها من الحقوق عند مباشرتها في مواجهة المتهم، وقد تُشكل ضمانة أساسية لحماية الحقوق والحريات خلال مراحل الدعوى الجنائية. ويعتبر قانون الإجراءات الجنائية بهذه المثابة مرآة لدستور الدولة فيما يعكسه من درجة احترامه وتكريسه لحقوق الإنسان. وهو من وجهة نظري من أهم القوانين المنظمة لأعمال القضاء، ومن ثم كان الأداة الرئيسية التي تُعول عليها محكمة النقض في الرقابة على ما يصدره قضاء الموضوع من أحكام في مجال الحقوق والحريات.

وقواعد الإجراءات الجنائية – إذا أُحسن تطبيقها – تُعد السبيل المنشود لتحقيق مقتضيات المحاكمة المنصفة، التي رسمت حدودها المواثيق والمعاهدات الدولية، وأكدت حق المتهمين فيها الدساتير الوطنية. وهي تُسهم في إدارة العدالة الجنائية. وتتوافر العدالة الجنائية من خلال إدارة العدالة في المواد الجنائية، خلال مراحل جمع الاستدلال والتحقيق والمحاكمة، والتطبيق القضائي السليم لأحكام القانون. ويرى كبار الفقهاء أنه إذا كانت الإجراءات الجنائية تهدف إلى تحقيق فاعلية العدالة الجنائية، عن طريق التطبيق القضائي الصحيح لقانون العقوبات، فإنها يجب أن تسعى في ذات الوقت إلى حماية الحقوق الأساسية للأفراد. وبالتالي، فإنه يترتب على طبيعة قانون الإجراءات الجنائية بوصفه من القوانين المنظمة للحرية الشخصية وحقوق الإنسان المتعلقة بها ما يلي:

1- الأصل هو حرية المتهم، وهو ما يُسمى بقرينة أو أصل البراءة.2- أن المشرع يستطيع أن يضع قيودًا على ممارسة الحرية الشخصية، ولكن لا يستطيع أن يصادرها تمامًا، والمشرع وحده هو صاحب الاختصاص في تحديد وبيان هذه القيود، بشرط تكون عامة مجردة واضحة غير غامضة.3- أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحريات، ولهذا كان طبيعيًا أن يتكفل وحده بإدارة العدالة الجنائية.

ومن المناطق المهمة التي تصدي فيها قانون الإجراءات الجنائية للأحكام المتعلقة بالحقوق والحريات – على النحو الذي سوف نتناوله بالمزيد من التفصيل في المحور الثالث – أحوال تفتيش الأشخاص والقبض عليهم، ودخول وتفتيش المساكن باعتبارها تتعلق بحقوق الأشخاص في الحرية الشخصية وحماية الخصوصية. فعلى سبيل المثال حددت المادة 45 من قانون الإجراءات الجنائية الحالات التي يجوز بموجبها دخول المساكن بدون إذن قضائي وبدون رضا صاحب المسكن، وأجازت المساس بحرمة المسكن سواء بدخوله أو تفتيشه، فقط عند توافر حالات وشروط وضمانات محددة، لا يمكن تجاوزها، كما حددت نطاق وتخوم هذه الضمانات.

5- أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية:

بالإضافة إلى المصادر السالف بيانها، فإن محكمة النقض قد تعول على مصادر تشريعية أخرى لتأسيس ما تسنه من مبادئ متعلقة بحماية الحقوق والحريات، مثل قانون المرافعات المدنية والتجارية باعتباره قانونًا عامًا بالنسبة لقانون الإجراءات الجنائية، يتعين الرجوع إليه لتفسير ما غمض من أحكام قانون الإجراءات الجنائية، أو لسد ما فيه من نقص، أو للإعانة على إعمال القواعد المنصوص عليها فيه، خاصة في مجال تنظيم الخصومة، حيث يشترك القانونان في بعض القواعد العامة، مثل مبدأ العلنية أثناء التحقيق النهائي، وضرورة مباشرة الإجراءات في مواجهة الخصوم، وشفوية المرافعات، وكيفية إصدار الأحكام. ويكون الرجوع إلى أحكام قانون المرافعات المدنية لحماية حقوق طرفي الخصومة الجنائية على حد سواء، بشرط عدم وجود نص يخالفها في قانون الإجراءات الجنائية.

مع التنويه إلى ضرورة الإقرار باختلاف نوع المصالح المحمية بالدعوى الجنائية عن تلك التي تنتظمها الدعوى المدنية، وفي الالتزامات الناشئة عنهما، وأن شرط استعانة القضاء الجنائي بقواعد قانون المرافعات ألا تكون أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية متعارضة وجوهر الخصومة في الدعوى الجنائية.

6- أحكام الشريعة الإسلامية:

إن المتتبع لأحكام النقض، سوف يجد أنها ترجع – في بعض منها - لمصادر الشريعة الإسلامية في أصل الحقوق والحريات، أخذًا بأحكام الدستور. ويرجع ذلك على حقيقة أن المشرع الدستوري يستهدي بمبادئ الشريعة الإسلامية ويقيد بها ما يصدر من تشريعات عن السلطات المختصة. آية ذلك أنه طبقًا لنص المادة الثانية من الدستور فإن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.

ولا يغيب عن الأذهان أن الشريعة الإسلامية قد كرست – منذ ما يزيد على الأربعة عشر قرنًا – حقوقًا للإنسان في احترام حريته وكرامته، وحقوقًا في المساواة والعدالة، والملكية والتكافل الاجتماعي، والحق في سلامة حياته وحمايتها، وحماية عرضه وماله وسمعته وخصوصياته، فضلًا عن حماية الحريات الكفيلة بضمان حقوقه الطبيعية الفطرية، واعتبر الإسلام حقوق الإنسان فروضًا وواجبات شرعية. هذا وقد كيف جانب من الفقه المعاصر حقوق الإنسان كما وردت في مصادر الشريعة الإسلامية باعتبارها "حرمات". وبالتالي فقد تضمنت الشريعة الإسلامية من مبادئ حقوق الإنسان التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيرًا. وبناء على ذلك، فقد صدر البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام في باريس عام 1981، عن المجلس الإسلامي الدولي، وهو يتضمن الحقوق والحريات المتقدمة، مستمدة من القرآن الكريم والسُنَّة النبوية المُطَهَرةُ. كما رسخ إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الحقوق السالف سردها، وفصل أحكامها.

ولا يمكن أن نغفل في هذا المجال رسالة الخليفة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حول القضاء، والتي تضمنت أعلى معايير العدالة في الإجراءات القضائية، فضلًا عن أنها تشكل أول مدونة حقيقية لما يجب أن يتصف به سلوك القاضي، ولذلك يطُلق عليها الفقه الإسلامي "دستور القضاء في الإسلام".

وبالإضافة إلى ما جاء بالقرآن الكريم والسُنَّة النبوية المُطَهَرةُ والتراث الإسلامي، فقد تصدى الفقه الإسلامي لحقوق الإنسان أمام القضاء. فعلى سبيل المثال، حوت مصنفات "أدب القاضي" المعروفة للإمام ابن أبي الدم، والإمام الخصاف، والإمام الطبري، والإمام الماوردي، أحكام القضاء في الإسلام، ومن بينها الجوانب المتعلقة باحترام حقوق وحريات الخصوم أثناء نظر خصوماتهم.

وكما سوف نرى لاحقًا، فإن بعض من أحكام النقض قد أشارت إلى القاعدة الإسلامية التي تكرس أصل براءة الذمة، والتي يُطلق عليها في الفقه والقضاء المعاصر "قرينة البراءة" أو "أصل البراءة"، والتي تستلزم اشتراط اليقين في الإثبات الجنائي.

وفي حقيقة الأمر فإن المتعمق في مصادر الشريعة الإسلامية والمراجع الفقهية من التراث الإسلامي في مجال القضاء في الإسلام سوف يتبين بسهولة أنها تزخر بالأمثلة على احترام وحماية حقوق الإنسان الأساسية في الإجراءات القضائية، وهو أمر يجب يكون موضع اهتمام الباحثين في مجال القضاء المقارن، وينعكس في اسهاماتهم العلمية في الدوريات الأجنبية، باعتبار أن مصادر الشريعة الإسلامية في القضاء في الإسلام تعكس جانبًا مضيئًا لتاريخ القضاء المصري.

هذا وقد اتبعت محكمة النقض منهجاً متميزاً لممارسة دورها في حماية الحقوق والحريات، على النحو الذي نتناوله في ورقة أخرى.

تم نسخ الرابط