عندما يبلغ أسف الإنسانِ على مكروه أصابه في نفسه أو عزيزٍ عليه حدا من الشدة لا يطاق، فإنه يبعث في النفس كآبة وانكسارا لا يملك معهما المرء ـ لا سيما إذا كان فاقدا لأسباب دفع ذلك المكروه في بيئة يسودها التخاذل عن إشهار الحقوق والجهر بها ـ إلا الاستسلام، وترك المقاومة ، والوهن والعزوف عن الجد .
هذه الحالة إذا سيطرت على الإنسان وتملَّكت منه، أثارت في جسده عاصفة من هرمونات الحزن تسكت القلب وتسلب الحياة .
لذا نهى القرآن الكريم عن الوهن والحزن ، فيقول مخاطبا المؤمنين :" وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ" سورة آل عمران/139
كونُهما من أسباب الفشل، نُهُو عن خَوَرِ العزيمة، وضعف الإرادة، وانقلابِ الرجاءِ يأساً، والشَّجاعةِ جُبْناً ، واليقينِ شكّاً .
نُهُو عن شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار، والغم والأسى، واعتقاد الخيبة والرزْء؛ لما يترتب على ذلك من الاستسلام وترك المقاومة، وإهمال الجد والنشاط ؛ كون ذلك لا يليق بمن علت منزلته، وحسن إيمانه .
والقرآن يعُدُّ الحزنَ مصيبة أعظم من الغم عندما يقول :" إِذۡ تُصۡعِدُونَ وَلَا تَلۡوُۥنَ عَلَىٰٓ أَحَدٖ وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ فَأَثَٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ " سورة آل عمران/153
أي ألهاكم بالغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والجراح، وأنساكم بمصيبة صغيرة هي: الغم مصيبةً كبيرةً هي: الحزن .
والنهي عن الحزن هو رسالة الملائكة للذين صدعوا بالحق دون خوف مع استقامتهم وإقبالهم على العمل الصالح وفاء بما كلِّفُوا به .
يقول الحق :"إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ" سورة فصلت/30
هولاء تتنزل الملائكة عليهم في الدنيا تنزلا خفيّا، يُلقون في أنفسهم ما يصرفُهم عن الخوف والحزن، ويبشرونهم بالجنة، يُعْرفُ ذلك التنزُّلُ، وتلك الكرامة بحصول آثارهما سكينة تغمر نفوسهم، واطمئنانا تنشرح به صدورهم، واغتباطا وتهللا وإقبالا على حياتهم .
وتلك السيدة مريم التي اصطفاها الله، وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، ينهاها الحق عن الحزن على لسان وليدها عليه السلام ، لقد ناداها عند وضعه قبل أن ترفعَه قائلا: " ألا تحزني" ؛لأن حالتك حالةٌ جديرة بالمسرة دون الحزن؛ لما فيها من الكرامة الإلهية.يقول الحق : :" فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا"سورة مريم/24
وهذه أم موسى ـ عليه السلام ـ ينهاها الله ـ سبحانه ـ عن الخوف والحزن قائلا:" وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ " سورة القصص/7
أمرها بإرضاعه لتقوى بُنيته بلِبَانِها؛ وليكون له من الرَّضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوتٌ فيما بين قذْفه في اليمِّ وردِّه إليها، ثم نهاها عن خوف هلاكِه بالإلقاء في اليم، وعن الحزن على فراقه.
ولو حزنت لما وجدت في صدرها ما ترضعه عند ردِّه إليها؛ لما للحزن والخوف من أثار سلبية على الأم المرضع فهما يقللان حليبها ، وتيغيِّران خواصَّه؛ مما يجعله سببا في توتر أمعاء الطفل وانتفاخ معدته .
لذا أدخل الله عليها المسرة عندما بشرها بقوله:" إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ " وهكذا ينبغي أن تكون حال المرضِع ، فسرورها يكون أسعد بالرضيع ، وأشبع له.
كما نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحبه أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ عن الحزن إذ هما في الغار قائلا : " لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ" سورة التوبة/40
معللا ذلك بمعية الله لهما ، وهو يعني أنه لا ينبغى لمن يستشعر معية الله له بالإعانة والرعاية أن يحزن، بل ينبغي عند الأحوال المخوفة الباعثة على الحزن أن تغمرَه السكينة والطمأنينة .
ولأن انعدام الحزن بانعدام أسبابه من النعم العظيمة، جاء منفيا في القرآن عن أوليائه سبحانه ،والذين اتبعوا هداه، ومن أسلموا وجوههم لله وهم محسنون.، ومن آمنوا به ـ سبحانه ـ وباليوم الآخر وعملوا صالحا .
جاء منفيا عمن ينفقون أموالهم في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، وعمن ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية .
جاء منفياعمن استشهدوا في سبيله والذين لم يلحقوا بهم من خلفهم.هؤلاء لا خوف عليهم ولاهم يحزنون .
فلا تحزنوا لأنه لا ينبغي لمن يؤمن بأن : الملك والملكوت أزلا، وأبدا ، خلقا، وتصرُّفا، ومصيرا بيد الله أن يحزن ؛ لأنه لن ينفذ في ملك الله وملكوته إلا مشيئته سبحانه .
أسعد الله قلوبنا ودنيانا وآخرتنا ، وأثلج صدورنا بالرضا واليقين ، وحفظ مصرنا من كل مكروه وسوء، ووفق قادتنا لما فيه الخير والنماء .