من جبر الخواطر الذي لا يدركه إلا أهل البصر والبصيرة، أن من يحال إلى المعاش موظفا كان أو عاملا، يجب أن يشعره رؤساؤه وزملاؤه بأنه وإن أبعده القانون عن مكان عمله الذي قضى فيه معظم حياته، وعن زملائه الذين عاش بينهم أجمل أيام عمره وأروع ذكرياته، بأنه لايزال له في مكان عمله ود موصول، وتقدير مذكور، وله بين زملائه محبة دائمة لا تزول، ومعزة حبلها ممدود، فما أشد الانكسار لمن كان كل يوم يذهب إلى عمله ويعود، وإذا غاب سأل الجميع عنه، فإن كان مريضا عادوه وزاروه، وإن كان في حزن شاركوه فيه وواسوه، وإن كان في ضيق وكرب ساعدوه وفرجوه، وفجأة بعد المعاش تغير حاله من النقيض إلى النقيض، فلم يعد له ذهاب ولا إياب، ولا سؤال من زميل ولا حتى عتاب، وهنا تظهر معادن الرجال من الزملاء، فصاحب المعدن الأصيل لا ينسى ذلك الزميل، فهو به مشغول، وللاطمئنان عليه غير مملول، وإن وجد له خيرا ذكَره وناداه، فأمثال هؤلاء الزملاء عند الله من أهل جبر الخاطر، الذين ينجيهم الله من كل المخاطر.
مرضى نفوس
وهناك زملاء حالهم مختلف، فهم مرضى نفوس، وخبثاء أرواح، فزميلهم الذي تركهم بقانون التقاعد كأنه كان جاسما على صدورهم، ويتقاضى مرتبه من جيوبهم، فإن جاءهم قاضيا لحاجة تخصه تعاملوا معه بإهانة واستخفاف، وإن رأوه بينهم تحت أي سبب من الأسباب تنمروا عليه ووبخوه بأخس العبارات والألفاظ، وتنادوا على رؤسائهم كي يبعدوه عن أي مكان يتواجد فيه.
إن أمثال هؤلاء قساة قلوب وغلاظ أكباد، يستغلون الأسيف المنكسر فيزيدونه انكسارا على انكسار، بل قد يسببون له من الأذى ما يجرح عزته وكبرياءه، بل إنه قد يفقد بسببهم حياته.
ولا يدري هؤلاء بأن أيام الزمان في كر، ولياليه في سرعة تمر، وقطار العمر مندفع إلى محطاته بلا كوابح تكبحه، ولا موانع تمنعه حتى يصل بالجميع إلى محطة التقاعد وسن المعاش، وساعتها سيعرف هؤلاء المستكبرون أن الذنب لا ينسى والديان لا يموت، وأنه كما تدين تدان، وقد يكون رد الدين فوق ما يتوقعه الخيال.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.