الأحد 08 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

عندما طلب زكريا من الله ـ سبحانه ـ الولدَ، لم يتوسلْ بعبادته أو طاعتة، أو نبوته ـ عليه السلام ـ  بل توسل بضعفِ بدنه، وتقدُّم سنِّه، فوصف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد قائلا :" رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا " سورة مريم/4

 فوهنُ العظم، وعمومُ الشيب يقتضيان اقتراب أوانِ الموت، فكان التوسل بهما استرحاما واستعطافا لحاله، واستجابة لرجائه.

 ولو علم زكريا ـ عليه السلام ـ  أنَّ عبادته، ونبوتَه أنجعُ في التوسل والاستعطاف والاسترحام لحاله، لما تردد في أن يقول مثلا : (رب إني نبيك)؛ لشدة افتقاره للولد فيما تبقى له من حياته: مُعينا، وبعد موته: وريثا، فأكرمه الله لأجل ذلك بيحيى عليه السلام .

 وكذلك أبناء يعقوب عليه السلام ـ بعدما أُخِذ أخاهم في حادثة صواع الملك، وأرادوا أن يأخذَ عزيزُ مصر ( يوسفُ عليه السلام ) أحدَهم مكانَه، كونه أصغرُهم سنًّا، وكونُهم قطعوا على أنفسهم عهدا وميثاقا لأبيهم أن يعودوا به، لا سيما وقد جعلوا الله شاهداً عليهم فيما وَعدوا أباهم به، إلا في حال أن يُحاط بهم بأسْرٍ، أو هلاكٍ مما يكون خارجا عن قدرتهم ،لا يستطيعون التغلب عليه. 

 فلم يتوسلوا لسراح أخيهم بغربتهم، أو فقرهم، بل بشيخوخة أبيه ( يعقوب عليه السلام )، فذكروا من أحواله ما يرقق قلب عزيز مصر، كي يستجيبَ لطلبهم فقالوا:" يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ إِنَّ لَهُۥٓ أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ سورة يوسف/78

 وصفوا أباهم بثلاث صفات هي :" أَبٗا شَيۡخٗا كَبِيرٗا " فذكروا الأبوة لما تقتضيه من حنان وذكروا الشيخوخة لما تستوجبه من عطف ورحمة وحنان، ثم استحقاقَه جبر خاطره لأنه كبيرُ قومه، أو لأنه انتهى في كبر السن إلى أقصاه؛ فالأوصاف الثلاثة فيها حضٌّ على سراحِ أخيهم ، أو أن يأخذَ أحدَهم عوضا عنه.

ثم زادوا في حضه على إجابة طلبهم هذا بعد توسلهم بما ذكروا من صفات أبيهم  بقولهم:" إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ" والمحسنون لا يَصدر منهم ما يسوء أباً شيخاً كبيراً.

 والعزيز يوسف عليه السلام لم يأخذ أخاه في دين الملك نكاية بل لأجل أن يحسن ليس إلى أبويه فحسب بل إلى أهله جميعا .

  وعندما ورد موسى عليه السلام ماءَ مدين، وجد امرأتين تزودان حتى ينصرف الرعاء؛ إيثارا لعدم التزاحم، خاطبهما متسائلا:" مَا خَطۡبُكُمَاۖ " ؟ــ لا يسأل عن سبب زوْدِهما وتجنُّبِهما الحشود؛ لأن ذلك مما يُفْهم بالبديهة، بل يسأل عن كونهما ترعيان وتسقيان وتقومان بما الغالب أن يقوم به الرجال ـ قَالَتَا في الجواب :" لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ " القصص/23

  أي صدَّهما عن المزاحمة أنهما من ذوات المروءة والتربية الزكية، مفتخرتين بمباشرتهما السقي كونه إكراما وتوقيرا لأبيهما حال شيخوخته وكبره، وعدم وجدانهما رجلاً يقوم بذلك .

 فسقى لهما على ما كان عليه من الإعياء عُقَيْبَ الوصول من سفره، لا يدفعه لذلك إلا ما ذكرتا من حال أبيهما: شيخوخةً، وكبرا، مع كونهما من ذوات المروءة والتربية الطاهرة .

 فكان ذلك لأبيهما الشيخِ الكبير إكراما، ولهما ولما تقومان به تقديرا واحتراما . 

وعندما يأمر الحق ـ سبحانه ـ بالإحسان إلى الوالدين قضاء، يخص حالَ بلوغِهما أو أحدِهما الكبرَ بالبيان؛ لما يكونان عليه من غاية الضعف، ونهاية العجز، وشدة الافتقار إلى كفالة الولد، وهي حال تستدعي خفض جناحِ الذل رحمةً بهما، وتوطِـيءَ الخُلق، وتلْيِينَ الجانب أدباً معهما.

 والإحسانُ يكون موقعُه عظيما إذا كان واقعا على هذا الوجه؛ لأن الابن يجمع بين ثوابين : ثوابِ الإحسان إلى الوالدين ، وثوابِ إكرام كبيرين .

  إن إكرام كبار السن بغضِّ النظر عن جنسهم، أو موقعهم، أو درجة قرابتهم، خلقٌ ينبغي أن يسود؛ لأنه من الأخلاق الإلاهية التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان على قدر طاقته .

  إكرامُ كبار السن وتوقيرُهم من أخلاق الأنبياء، وشيم النبلاء، كما أنه دليلُ مروةٍ، وتواضع وإحسان، ووفاء؛ لذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا" المعجم الكبير للطبراني/ 7603

  إكرام كبار السن باب من أبواب الثواب والرضا الرباني يدخل منه الراغبون ، ويتنافس فيه المتنافسون .

  إكرام كبار السن يكون بإخلاء مقعدك لإجلاسه، بمساعدتك في حمل متاعه، الأخذ بيده لعبور طريق أو صعود درج أو نحو ذلك من أبواب الإكرام .

  وإنك لتسعد حين تجد لافتة في قطار أو مصلحة حكومية كتب عليها :"مخصص لكبار السن " لأنها تعني أن الدولة الرسمية تتبنى تلك القيم وتعلي من شأنها.

  أحسن الله إلى آبائنا وأمهاتنا ومشايخنا كما أحسنوا إلينا.

وحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء ، ووفق قادتها لما فيه خيرها ونماؤها واستقرارها .

تم نسخ الرابط