الخميس 19 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

شيء محزن أن تجد أستاذًا ومعلما يضطهد تلميذًا عنده، فيصر على إفشاله ويتعمد تحطيمه ويسعى إلى رسوبه.!

يرميه بالأسئلة الصعبة حتى لا يجيب، وإن عجز عن الإجابة أهانه ووبخه، حتى يكسر نفسه ويحطم ثقته بذاته.

أنا لا أعلم ما طبيعة هذا المعلم الذي يضطهد تلميذا، وكأن بينه وبينه ثأر لا ينطفئ؟!

المعلم الذي يفترض له أن يكون قدوة ووالد وبينه وبين تلميذه رحما هي رحم العلم، التي تعد أقوى من رحم الأنساب، لكن هذا المعلم الناقص كفر بها وقطعها وولاها ظهره.

وفي الوقت الذي فرض عليه موقعه أن يكون قدوة كبيرًا، إذا به يبدو صغيرًا ضئيلا سفيها ناقصًا.

انا واحد من الناس قابلت في مراحل تعليمي هذه النوعية الساقطة، وبينما أنا طالب صغير، بين الطفولة والصبا، كان هناك من يعاملني بقسوة ويعاقبني بوحشية، ويتعمد إهانتي وتحطيمي، وكنت أندهش وأسائل نفسي: لماذا هذه القسوة المفرطة ما سببها ياترى ولماذا لا يلقى غيري من التلاميذ مثلها، ولما كبرت علمت أن هناك عداوة وخصومة بين هذا المعلم وبين والدي، ورغم أنه كان معلمًا في المرحلة الابتدائية، وكان والدي من رجال التعليم الكبار، الذي يمكن له أن ينكل به، إلا أنه لم يستطع أن يخفي شهوته المسعورة في الانتقام من أبي حين واتته الفرصة في شخصي الضعيف، ليكيل علي العقاب وينزل على جسدي العذاب.

أذكر مرة أن حضر والدي إلى المدرسة بعد ان صرت اشتكي وأبكي وأمتنع عن الذهاب إليها، لأن المعلم الفلاني يضربني بشده.

حضر في ذلك اليوم الذي أتذكره جيدا وقامت الدنيا رأسا على عقب، ودلف إلى فصلي، وكنا وقتها في حصة ذلك المعلم، فأخذ والدي يصيح في وجهه، ويرمي عليه صواعق غضبه، محذرا إياه بأن هذا تصرف لا يليق ولا يصح، وأنه يقودني للخوف من المدرسة والعقدة من التعليم.

كان صاحبنا يومها يقف كفأر مذعور أمام هر بل أمام أسد، يحاول ان يقابل هذا الغضب العاصف بالتحليل الكاذب الملتوي.

كنت وقتها أرى أبي قويا، لكني لم أكن اعلم لصغر سني، ما يملكه من القوة التي تؤهله أن يعاقب هذا المعتدي بأقصى ما يمكنه من عقاب.. فقد كان مديرا بالادارة التعليمية وله معارف ووساطات في كل مكان، لكنه رحمه الله كان كبيرا عاقلا محترما، ولم يكن ابدا ناقصًا صغيرًا على هذا النحو الذي ظهر به هذا المعلم، الذي فقد بفعله أبسط مقدرات المعلم، واكتفى والدي يومها بنقلي من هذه المدرسة، وانتشلني من بين هذا الذئب الوضيع.

ولا شك أن هذه المعاملة تسببت في تعقيدي من التعليم والدراسة إلى وقت طويل لم أتجاوزه إلا في مراحل متأخرة.

ربما لا يعلم أمثال هذا المعلم أن الزمن دوار، وأن الله بقدرته وعدله، يمكن أن يمكن هذا الطالب الضعيف المسكين، من هذا المعلم الناقص، في يوم من الأيام، وفي تلك آيات مبهرات.

الدكتور النبوي شعلان ومواقفه التعليمية

حدثني فضيلة العلامة الدكتور النبوي شعلان أمد الله في عمره وعمله، أنه وهو في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية المسماه اليوم بالإعدادية، ابتلي بمدرس من هؤلاء، أخذ يضطهده، ويتصيد له الاخطاء، ويتعمد إهانته، ويضيق عليه، كان شيخنا يتحير وقتها من هذا العداء الذي يجعل مثل هذا الأستاذ، يفعل فعله هذا مع طالب من طلابه، لماذا هذا البغض وما دواعيه، وحتى لو كان يبغضه، فأين عدل الله الذي أمر به.؟

لكن شيخنا ادرك السبب حيث يقول: 

سبب كره هذا الشيخ لي أنه كان يريد أن أقول له إنني فقير ليعطيني خمسة عشر قرشا في الشهر كما يفعل مع زميل من قريتي وكان منظري لا يدل على فقر، فقد كنت البس كاكولة من قماش صوف جيد وألبس حذاء من صانع مشهور في منوف فقد كانت أمي رحمها الله تهتم بي اهتماما كاملا حتى تبعد عني ألم فقد الوالد (ألم اليتم) فقد كان هذا الشخص يريد أن يكسر نفسي فلم أعطه هذه الفرصة أبدا لأنه كان يعاني عقدة نقص إذ كان حسب ما علمت فقيرا محتاجا وكان من أساتذته من يعطيه ويعطف عليه، ويريد أن يمارس هذا الدور ويداوي هذه العقدة.

مرت تلك السنة التي تجرع فيها شيخنا المرار على يد هذا المعلم الذي كان يدرس لهم مادة الفقه في معهد منوف الديني، لقد كانت سنة كئيبة أذن الله بعدها بالفرج.

ولكن هذا المعلم مازال يتذكر هذا الطالب ولا ينساه أبدًا، ومهما رآه تجدد في نفسه عهد البغض وميثاق الكراهية.. وكذلك الطالب النبوي لا ينسى هذا الشيخ أبدا وظل مطبوعا في وجدانه لما لقيه من عنته.

ويتخرج الطالب النبوي من المرحلة الثانوية، ويترك معها تلك الذكرى المولمة، بأيامها العصيبة، ويلتحق بكلية اللغة العربية، ويسير في مساره العلمي حتى نال العالمية الدكتوراه، وصار أستاذا للنقد الأدبي في كلية اللغة العربية فرع البنات بجامعة الأزهر.

وهنا يحدث العجب العجاب، وينزل الدهر بآياته والقدر بتصاريفه، جاءت اللحظة التي تجلت فيها قدرة الله، وجاء معها الايمان الكبير بأن الزمن كما قلنا دوار.

الأستاذ الدكتور النبوي شعلان بين طلابه في المحاضرة يدرس مادة النقد القديم، وإذا بفتاة من طالباته تتفاعل معه بهمة ونشاط، يبدو عليها ذكاء وقاد وثقافة واعدة، وكان كلما سأل سؤالا أجابت، أو طلب شرحًا أبانت.

لفتت انتباه أستاذها فنظر إليها وسألها عن اسمها.

وهنا كان المفاجأة حينما قالت له:

اسمي (س-ن-ش)

دهش الدكتور النبوي من الاسم وسألها: انت ابنة الشيخ فلان الذي كان في معهد منوف الديني؟

قالت: نعم.

فنظر إليها وإلى الطلاب قائلا لهم: هذه ابنة شيخي ووالدها كان أستاذي.

ولكن ما المفاجأة في هذا الحوار، وما الذي يخبئه الكلام مما يدفعنا للدهشة؟ ومثل هذا يحدث كثيرا ؟

ولكنك ستفاجأ حينما تعلم أن (ن-ش) والد تلك الفتاة هو ذلك المعلم الذي اضطهد الطالب النبوي شعلان في المرحلة الثانوية.!

يا ألله ما أغرب الدنيا وما أعجب الزمان.!

لقد جاءت الفرصة تحت أقدام الدكتور النبوي ليرد العقاب بعقاب، ويماثل الاضطهاد باضطهاد أشد، لقد جاءته الفرصة ليرد الصفعة إلى هذا المعلم الذي مكنه الله منه بعد هذه السنين الطوال.!

ولكن ما كان للدكتور النبوي أن يفعل ذلك، وهو العالم الذي امتلأ قلبه سماحة وعفوا، ما كان له أن يفعل ذلك وهو الحامل لكتاب الله القائل: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).. ما كان له أن يفعل ذلك وهو المعلم الذي تربى تربية سوية، وآمن بالعدل بعد أن رأى حجود الظلم، وعرف معنى كلمة المعلم ورسالته والمسؤولية المناط بها والملقاة على كاهلة، بل أدرك معنى القدوة الذي يجب أن يحققه ويظهره في نفسه وأمام طلابه.

ماذا فعل الدكتور النبوي مع ابنة شيخه وأستاذه الظالم، هل قابلها بالظلم والاضطهاد كي يرد الصفعة إلى أبيها؟

لا.. لم يفعل ذلك وإنما طلب منها أن تمر عليه في مكتبه.

ولما جاءته أخرج بطاقته الخاصة – الكارت الشخصي- وكتب عليه: أستاذي الفاضل أرجو أن تطمئن إلى أن ابنتك في يد أمينة تخاف من الله وبين قوسين (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

يقول الدكتور النبوي: في المحاضرة التالية، بحثت عنها فلم أجدها ولما سألت عنها وجدتها في أخر المدرج صامتة وجلة خائفة، بعد أن كانت في المحاضرة السابقة بالصفوف الأولى متحمسة متقدة الهمة والنشاط، تشارك وتجاوب.

فناديت عليها وأدركت ساعتها أنها ذهبت إلى والدها وأعطته –الكارت- فأخافها مني وأكد لها كما صور له خياله المريض، أنني سأعاملها بنفس معاملته لي.

ولكني وقفت وناديت عليها وقلت لها: لماذا تجلسي في آخر الصفوف ؟

أفسحوا لها وأمرتها أن تجلس في الأمام، وطمأنتها وأخرجت بطاقة أخرى وكتبت فيها رسالة إلى والدها:

"أرجو أن تطمئن إلى أن ابنتك مع إنسان يخاف الله عز وجل"

وتمر السنة وفي نهاية العام تنجح الطالبة ابنة الشيخ الظالم، وتحصل على تقدير جيد جدًا في مادة النقد القديم التي كان يدرسها الدكتور النبوي الذي ذاق الأمرين من أبيها الطاغية.

يقول الدكتور النبوي: أذكر صورتها إلى الان وهي قادمة تجري في الطرقة وكأنها تريد أن تحتضنني، وتقول بصوت يختنق فرحا: (أنا نجحت يا دكتور نبوي، وجبت جيد جدا يا دكتور نبوي) فرددت عليها وقلت لها: (مهو أنا يابنتي إلي واضع الامتحان، وأنا اللي مصحح الورق وأنا اللي ماسك الكنترول)

سلمي على بابا وقولي له: مبروك نجاحك

تم نسخ الرابط