ads
السبت 21 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 تنقل خطوط المترو يوميا آلاف الركاب من جنوب القاهرة انطلاقا من شبرا والمرج، وانتهاء بالمنيب وحلوان، ومن شرقها انطلاقا من عدلي منصور متقاطعة في نقاط تسمى المحطات التبادلية، ينزل فيها من أراد تصحيح المسار.

 وعندما تتصفح وجوه الناس في هذه القطارات ترى عليها ملامح الجد، والترقب، فتدرك من الوهلة الأولى أنهم لم يخرجوا للتنزه، وأنهم لا يملكون رفاهية الوقت، فالكل يتابع بعناية تقدم القطار لئلا يتجاوز محطة نزوله،أو محطة التبادل .حتى يتمكن من تغيير مساره إلى وجهته المطلوبة.

وقد يحدث أن يتجاوز بعض الركاب تلك المحطة، فينأى عن هدفه ووجهته التى استقل القطار من أجلها، ويزداد بعدُه أكثر وأكثر بمقدار ذهوله وعدمِ مسارعته للعودة وتصحيح المسار. ترى هذا يوميا في رحلتي الذهاب والإياب .

  هذه الرحلة مع قصر مدتها الزمنية هي أشبه ما تكون برحلة الإنسان في الحياة: قصيرةٌ وإن بدت طويلة، يمر فيها بمحطات كثيرة،غير أن فيها محطةً واحدة يجب عليه أن يحول مساره عندها إلى اتجاه آخر، وإلا كان استمرارُه في المسار الأول لا معنى له إلا التمادي في البعد عن الهدف والوجهة الصحيحة.

  تلك المحطة  ذكرها القرآن ونبه على ضرورة تحويل المسار فيها وسماها محطة " الأربعين " في قوله تعالى :" وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ "الأحقاف/15

   فقوله سبحانه:" حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ" يبدوا كأنها محطة فاصلة بين ما مضى من عمر الإنسان بدْءا من حمله، ومرورا بوضعه وإرضاعه وفصاله وصباه، وصولا إلى بلوغه أشدَّهُ في الفتوة، وما يستقبل من عمره .

  ولأنها مرحلة تتسم بنضارة الصبا، ورعونة الجهَل، وحيوية الشباب، وفَدَامةِ العقل؛ لا يستغني الإنسان فيها عن رعاية والديه، وإن اكتمل بنيانُه، وبلغ أشدَّه؛ لأن عقله يظل فيها دون الكمال، لذا كان مفتقرا للتذكير والتوجيه والتوصية بما ينبغي، والذي منه: بر الوالدين، لذا يقول الحق مُخْبِرًا :" وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ "،ولو كان الإنسان دون الأربعين متوجها للواجب من تلقاء نفسه لما وصاه الحق بذلك.

  فبلوغ الانسان أشدَّه لا يعني نضج عقلِه، وكمالَ إدراكه، فذلك إنما يكون ببلوغه ألأربعين.

   لذا كان قول الحق:" حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ" مشعرا بأن أوقات الصبا وما بعدها حتى بلوغ الأشُدِّ أخفُّ في المؤاخذة مما بعدها.

    أما الأربعين: فلأن القوى العقلية تأخذ فيها بالنضج والاستكمال كانت محطةَ اتخاذ القرار بمغادرة قطار الصبا والجهَل والرعونة، وتحويل المسار نحو اتجاه: العبودية، والاستسلام لله، والاشتغال بطاعته،وشكره، والإكثار من العمل الصالح .

   لذا فإنه لا يَفتقر بعدها إلى التوصية بما يجب عليه، لأنه أصبح مدركا له، ولما منَّ الله به عليه من نِعمٍ تَخرُجُ المكافأة عليها عن الوُسْعِ والطاقة، فلا يبق أمامه إلا الاندفاع بقوة إدراكه، وكمال عقله نحو: الدعاء والشكر والثناء الجميل .

  ولأن الإنسان مفتقر في الإتيان بالطاعة إلى عون الله وتوفيقه؛ طلب منه أن يُلهمه شكرَ نعمِه الغامرة التي منَّ بها عليه، وعلى والديه، لأن إنعام الله على والديه في الحقيقة إنعام عليه، وهذا من كمال الإدراك.

    إنها المحطة التي يدرك فيها أن جل ما مضى من عمره كان ضائعاً؛ لذا يطلب التوفيق لعمل الصالحات التي يرضاها الحق.

   إنها المحطة التي يدرك فيها الإنسان أنه سيفتقرُ لرعاية أبنائه كما كان مفتقرا قبلها لرعاية آبائه، لذا يطلب من الله أن يصلح له في ذريته وهم محيطون به؛ فيعملوا بما وصاهم الله من الإحسان،لأنهم لو فسدوا لتسلطوا على آبائهم بالعقوق والنكران . 

   إنها المحطة التي  يدرك فيها أن الدعاء لا يُرجى قبولُه مع المعاصي، لذا يعلن توبته وخضوعه واستسلامه لله، ولسانُ حاله يقول: يارب، ما دعوتك إلا بعد استسلامي وتوبتي إليك، فتقبل دعائي . 

  هؤلاء الذين يحوِّلون مسارهم، يبشرهم الله بأنه يتقبَّلُ منهم، ويتقبل عن والديْهِم، وذريتِهم أحسن ما عملوا، وهو: الإحسان للآباء، والدعاءُ للذرية، وشكرُ النعم،وطلبُ إلهام التوفيق للصالحات.

 يقول الحق :"أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـَٔاتِهِمۡ فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ "الأحقاف/16

  فيا من بلغتم محطة الأربعين:غادروا قطار الصِّبَا والجهَل ، وحوِّلوا مساركم إلى الله، أقبلوا عليه بالتوبة والشكر، مكثرين من العمل الصالح، والدعاء لآبائكم، وأبنائكم، فدعاء الأبناء لآبائهم، ودعاء الآباء لأبنائهم مستجاب، لأن الله هو الذي لقَّنَه وأمر به.     

  ربنا تبنا إليك؛ فأوْزِعْنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحا ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا.

   ربنا واحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء.

تم نسخ الرابط