ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

"يعرف الصيادلة عشرات السموم المعدنية والنباتية التي تستطيع أن تمزق الأمعاء أو توقف القلب أو تشل الأعصاب وتؤدى إلى الموت في أقل من ثانيتين أو بضع دقائق . ولكن القارىء قد لا يدرى أنه هو نفسه يفرز سماً لا يقل في قوته عن هذه السموم الصيدلية ويستطيع أن يقتله في أقل من ثانيتين أو بضع دقائق .
وهذه السموم هى عواطفه .. عواطف الخوف ، والغضب ، والكراهية ، والغيرة ، والشك .."

عند قراءة هذا المقطع من كتاب الأستاذ سلامة موسى "محاولات" استوقفتني أحداث كثيرة ضمتها صحف القضايا والتي أدت بأصحابها إلى مصير معدم كحبل المشنقة أو مصير مظلم كالسجن المؤبد .
دائما هناك جانباً غير مرئي في صفحات القضايا .. هذا الجانب هو أعظم قدراً من الجانب القانوني فيها .
القانون لا يعذر أحد بجهله والمفروض أن أولى الناس معرفة بالقانون هو القاضي الذي له الكلمة الفصل في النهاية . 
الجانب الأعظم الذي أقصده هنا هو جانب الإنسان نفسه .
وراء كل جريمة تكمن عاطفة ..
حب .. طمع .. جشع .. غيرة .. انتقام .. مرض ..
إن الكلمات العفوية التي دائماً ما أحرص على نقلها كما خرجت من صدور أصحابها تنطق بهذه الحقيقة .
لا جريمة بدون عاطفة مهما كانت بشاعتها ومهما تصورنا أنها لا تحمل سوى أحط الصفات .
الباعث على الجريمة وإن كان لا يدخل في أركانها إلا أنه له مدلولاً عظيماً في فك طلاسمها ولذلك دائماً ما أوليه اهتماماً مضاعافاً .

النظر إلى ما وراء الكلمات يمكن أن يقدم لنا مكنوناً رهيباً من تناقضات النفس البشرية والاكتفاء بظاهر النص أو قشور  الكلمات هو خيانة للحقيقة .
نعم هو خيانة للحقيقة .

يقول المتهم في اعترافه بقتل صديقه الذى تمكنت عاطفة الغيرة منه وأقنع نفسه تماماً بأنه يخونه مع زوجته:
"كنت بآجى من السفر وأدخل سريري بشم فيها ريحة ملابس .." بقصد صديقه .
ليس هناك درجة من اقناع النفس بالخيانة تفوق ذلك . إنها تأصلت في مكنونه حتى أن رائحة ملابس صديقه تطارده في مخدعه . أظن أنها تشبيهاً (شكسبيرياً) إن جاز لنا التعبير .
أولم يقل ذلك شكيبير في "هملت"

الأب الذي قتل ابنته التي تردت في الرزيلة .
" قبل الفجر بحاجة بسيطة خنقتها وهي نايمة .. كنت بطهرها .. نزلت صليت الفجر ودعيت لها بالرحمة ورجعت قولت للجيران بنتي ماتت"
لحظة أن انطبقت أصابع يده حول عنقها كان الأب يحب ابنته يريد لها أن تتطهر . كان يعلم أنها تموت غيلة وغدراً وأن الله سيغفر لها .

الفتاة التي انزلقت إلى هاوية الدعارة.
" أول مرة عملت كده كانت أمي تعبانة ومحتاجة دوا ومفيش حد بيساعدنا .. قلت أمي أهم من عذريتي"
لقد أتت الفتاة بمنطق لا يفهمه السادة أصحاب الفضائل لكن الذين ينزلون إلى مرتبة الضعف الإنساني يفهمونه جيداً .

الزوج الذى ظهرت عليه أعراض السيكوباتية وانتقم من المرض في صورة زوجته .
" كل يوم كنت بأحس بإهانتها ليا وبعدها عني وبعدين شكيت في سلوكها وتأكدت إنها بتخوني لكن مش عارف مع مين .. فيه شيخ قالي مع ناس كتير . قتلتها "

الأب الذي أراد أن يتنازل عن بلاغة ضد ابنه الذي قام بسرقته بإكراه.
قول والله العظيم أشهد بالحق .
حلف اليمين. 
علمَ تشهد:
" أنا جاي أشهد إنى عايز أدخل القفص مكان ابني . طول ما هو محبوس انا اللى بتعاقب . عايز ابني .. جاي أشهد إنى عايز ابني"
ثم بكي .
لقد تنازل الأب عن شكواة بطريقة عبقرية .
قال ببساطة أن العقوبة ليست شخصية كما تعلمنا لأن العقوبة طبقت عليه هو أيضاً وبصورة أبشع وأقسى .

بداخل كل إنسان قبو مظلم لا يراه أحد غيره وعلى من يجلس فوق منصة القضاء الجنائي أن يدرك هذا القبو .. ليس فقط ذلك بل عليه أيضاً أن ينير ظلمته ..!

تم نسخ الرابط