ابتلي العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بفتن كقطع الليل المظلم, كان سبب غالبها الغلو والتفسير الناقص للنصوص , فاستسهل بعض الناس قذف المسلمين بالبدعة والكفر والشرك والجهل في أمور خلافية قال بها أئمة المسلمين وعلماؤهم، ولم يعلم هؤلاء أن سر خلود الإسلام هو الاختلاف المحمود الذي دعا إليه الإسلام وتحلى به علماء الأمة منذ نشأة الحضارة الإسلامية.
إن الداء الأكبر الذي غذي به أصحاب هذه الفتن هو غياب آداب الحوار والاختلاف وضوابطهما التي تعصم من تصدر في دين الله من الغلو والقدح في الآخرين إن كان الحق هو المطلوب من خلافه وليس الانتصار لتعصب أعمى أو هوى بغيض, قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ).
لقد كانت سنة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الإسلام في الحوار بينهم استعمال العبارات اللطيفة والكلمات العذبة, لمعرفتهم أن ذلك يلين القلوب القاسية ويقرب الخصم المعاند , كما يقول سبحانه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) , كما أمر بالقول الحسن بل الأحسن الذي يسد مداخل الشيطان الذي يغري بالعداوة والبغضاء والجفوة عن طريق الكلمة الخشنة والرد السيئ فقال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا ولا فاحشا ولا لعانا.
واتبع علماء الأمة هذا الهدي النبوي في خلافهم فنرى الإمام الذهبي يثني ثناء عطرا على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الخلاف ما هو معروف.
ولم يتبع علماء الأمة الظنون والأوهام في تخطئة الناس أو رميهم بالجهل والخيانة, بل نصوا على أن الأصل في عموم المسلمين الصدق والعدالة وحسن الظن بهم، وأن المسلم إذا قال شيئا فإنما يحمل على أحسن محاملة إن وجد إلى ذلك سبيل هذا في عموم الناس, فما بال علمائهم وعقلائهم إن قالوا شيئا, فالاحتياط في الاتهام هنا أولى, والتمهل للفهم أجدى, لأن هؤلاء إنما يتكلمون بمستند شرعي حتى ولو لم ينصوا عليه في كتبهم, وهذا هو الأصل وما عليه العمل في كتب الفقهاء عندما يذكرون المسائل الفقهية خالية من النصوص الدالة عليها.
وقد راعى أهل الحديث هذا أيضا, فلم يطعنوا أحدا في غير رواية, ونصوا على أنه لا يجوز ذكر المسلمين بصفاتهم المذمومة إلا في مقام الجرح, لضرورة الحفاظ على السنة قبل تدوينها, وأما خارج ذلك فالأدب الجم والخلق النبيل وبسط الوجه وعذر الجاهل.
ولم يكن من أخلاق علماء الحديث أو الفقه أن يسب أو يهين أو يحقر بعضهم بعضا, ولم يطعن أحد منهم عرض مخالفه, بل لم يكن ذلك يظهر في الحضارة العلمية الإسلامية إلا ممن يتشبهون بالعلماء وليسوا منهم, فهم يشغبون بالقول ليظن الجاهل أنهم من العلماء, ولو كانوا منهم لتلبسوا بأخلاقهم ولغة حوارهم واختلافهم كما يلبسون ثيابهم ويخادعون بعلومهم.
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم, وكل منهم يظن أنه يبغض لله, ثم يقول: وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له ، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون فيه مجتهدا مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطوة فيه, ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة, لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله. وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق, فافهم هذا فإنه مهم عظيم, [جامع العلوم والحكم].
إن الهوى لم يكن مطية أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أو تابعيهم أو علماء الأمة العظام في خلافاتهم, والخلافات التي أفرزت تلك الآداب لم يكن الدافع إليها غير تحري الحق, وكانت أخوة الإسلام بينهم أصلا من الأصول المهمة التي لا قيام للإسلام دونها, وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل الاجتهادية.