الأحد 29 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

 وقفة مع كتاب "النجم الذي هوى" للمستشار بهاء المري

الغلاف: رائع، معبر، يضج بالثرثرة، يسلبك من نفسك، ويسافر فيك إلى الزمن الراحل. 

العنوان: النجم الذي هوى..

عنوان موفق، جمع فأوعى أزمة بطل الكتاب، وحياته كلها في جملة، وكأن النجم حين ارتفع وشارف الوصول إلى سدرة المنتهى من طموحه؛ تمكن الهوى من نفسه فأغواه؛ فهوى، والطموح كالخيل الجامح لا يعلم أيان مرساه إلا ربه.

كتب أستاذي الجليل في كتابه "النجم الذي هوى".

"وفي الوقت ذاته وقفت على سقوطه المدوي على إثر مرافعته كمدع عام في قضية حادثة دنشواي، التي أتت على تاريخه كله، فكرهه المصريون كرهًا جمًا كما أحبوه ـ من قبل ـ حبًا جمًّا. إلى أن مات وحيدًا فقيرًا، حزينًا على مجده. ولكني لم أكرهه!"

ـ ما أقسى قهر الرجال!

وما أعتى بلاء الوعي الشديد على النفس، حين يدرك الإنسان أن الجميع كانوا يقيمون في قلبه على حرف، ويعيشوه بتأشيرة إقامة مشروطة، تمنحها إياه أفعاله، وما يبذله لأجلهم من عون وخير، فيظل مضطرًا طيلة حياته أن ينفق أثمانًا باهظة من سعة روحه، وعمره، وعافيته؛ ليضمن صلاحيتها وبقائه في عيونهم كما هو أو أفضل،  فإذا سُلِّطت على نواياه النفس؛ فتسلل إلى مواطن ضعفه الهوى؛ فولى قبلته شطر الناس والدنيا، فإذا خانته نفسه، وجاس الهوى خلال جدران قلبه، وارتكس في خطايا طموحه؛ فأخطأ وهوى؛ نبذوه طريحًا على ناصية التجاهل والخزي، وأسقطوه من قلوبهم، وعيونهم، وحديثهم، وحيواتهم، وقوبل ما سلف من عظمة تاريخه وذكراه بالطمس، وكأن الخير الذي فعله ذرته رياح الخطأ والغضب على حين غفلة من الحذر، والفضل الذي عاش بينهم ذهب أدراج النسيان!، فلم يغفروا له رغم أنه عاش بعد خطئه يعض على قلبه من الندم ويتحمل ارتطام أنينه وحده، ويشيع جنازة وزره في اليوم والليلة آلاف المرات إلى مثواها الأخير دون جدوى، ونسوا أنهم يتعاملون مع إرادة بشر يصيب ويخطئ، وليس ناسك ـ حتى هذا لم يكن أكبر من الخطأ ـ أو نبي معصوم من الذلل، أو ملاك.

ترى، هل يبعث الأثر الطيب من رماد الطمس في ثوب جديد تمنحه إياه روح العدالة؟

وهل آن الأوان للضحكات المؤجلة في طيات الغيب أن تنطلق، وللرجاءات العاكفة على أبواب الفرج أن تنتصر؟

في هذا الكتاب يأخذ بعقلك الكاتب إلى رحلة في أعماق التاريخ وحقبه السحيقة، ويصعد بفكرك داخل آفاق نفسه المملوءة بالوفاء لرجلٍ تجسدت فيه معاني الإنسانية، وكان ـ ولم يزل ـ علمًا من أعلام مصر ـ  (ابراهيم الهلباوي بك) ـ الذين تركوا في تاريخها القضائي، والأدبي، والسياسي، والاجتماعي بصمة لا ينكرها إلا جاحد. 

فيقتحم الكاتب على التاريخ صمته الذي يعج بالهرج والمرج، ويمسح بنبل على وجهه، فينزع عنه برقع سفسطته وأدلجته المشحونة بالارتياب؛ فيتندر على إصراره التاريخ، ويتبسم ضاحكًا من فعله وهو مضرجًا بنزف معاناته وضلالاته!

فيقبض على قلمه بنظرة حكيم عميقة، وقلب القاضي المحاصر دومًا بين العدالة وروحها، ويمضي مهتديًا بنور الأثر المنثور على صفحة الخلود، ليفتح طريقًا للتنوير أمام كل تائه وباحث عن الحقيقة، ذاك الأثر الذي يعلمنا أن نكره الخطأ وليس المخطئ..

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:

"أكره الخطأ دائمًا، ولكن لا تكره المخطئ، وابغض بكل قلبك المعصية، لكن سامح وارحم العاصي، انتقد القول لكن احترم القائل؛ فإن مهمتنا أن نقضي على المرض لا على المريض".

ونحن هنا أمام بطل أخطأ مرة واحدة؛ فقامت قيامة الشعب ضده، وأوصدت القلوب في وجهه، وباءت كل محاولاته في طلب العفو والمغفرة والتماس العذر لنفسه بالفشل؛ فعاش مغبونًا، وحيدًا، معدمًا، لم يشفع له ما سلف، ولم تجب عطاياه السابقة ما ارتكبه في لحظة نزق وطموح جامح أودى به إلى الهاوية، فمات وإرثه مقبورًا معه، فلم يكرم ذكراه أحد في الزمن الراحل، والآن ينصفه ويعطيه حقه "القاضي الجليل" ـ الذي نهل من بلاغته وفصاحته ومرافعاته، وقرأ أدق تفاصيل حياته، ومذكراته؛ فلم يبخسه حقه، ولم ينكر فضله، ولم يكرهه رغم خطئه!

استطاع الكاتب بحنكته، وحكمته، وإنسانيته أن يبحر داخل أعماق النفس البشرية، ويتناول جرح نفس ـ لا زال يثعب بين أحضان التاريخ ـ بفراسة موقن بحال البشر وأسرار النفس، وبنظرة واسعة بعيدة المدى للأحداث استطاع أن يعرفنا بالنجم الذي هوى، وما له وما عليه، وليس كمن خرج من عباءة الزمن الراحل وجلس برفقة عقله ينقب عن الأخطاء، ويصدر الأحكام على الجميع وهو خارج نطاق الزمن، فتمكن من إعادة تطهير جرح التاريخ، وتضميده، بعدما رُتق قبل والجحود والوساوس تنخر في أصوله وثوابته حتى تآكل، وضمد واللهث وراء النفس والتعصب الأعمى لا زال يسري في كيانه، ويقلقل الفكر الآسن والراكد داخله، حتى أصبح كالداء العضال يطفح بصديده الملوث داخل العقول الفارغة إلا من الدنيا والهوى، والعصبية، والطاعة العمياء؛ فكان لزامًا على النفوس السوية استئصاله من جذوره، واجتثاثه من أوتاده؛ فأطلق الكاتب عنان قلبه وعقله وقلمه في غور التاريخ، وغاص في عمق زمانه؛ ليستخلص لنا الدر المكنون، وزلال الفكر الصادق عن حقائق تلك الفترة من عمر الزمن، مثلما قدم في أدب المرافعات، وأنا خير منه، و دنشواي أصل الحكاية والجلاد.

لله در الكاتب، الذي آثر أن يحمل على عاتقه أمانة رجل واراه الثرى، لم ينصفه زمانه، ولم يسانده ما فعل، ولا الذين شاركوه الحياة، بل رموه بكل لا مبالاة تحت قطار الحياة؛ لتدهسه عجلاته، وبمرور العمر ودوران الأيام، يأتي القاضي الجليل ـ طيب الله ذكره ـ ليفتح له بابًا من اللطف، ويعطيه حقه الذي جحده الغابنون!

تم نسخ الرابط