"وابنوا دولتي على العلم والأخلاق، فالعلم وحده ليس يجدي"، بيت شعر عبقري يتحدث فيه شاعر النيل "حافظ إبراهيم" على لسان مصر مخاطبًا شعبها العظيم بأن الدول القوية والحضارات الإنسانية لا تُبنى على العلم وحده، بل هناك جناح آخر هو الجناح الأخلاقي، الذي لا يقل أهمية عن العلم، بل هو الكابح لجماحه والضامن لأنسنته وجعله في خدمة البشرية وليس العكس.
وقد رأينا في عصرنا الحديث مخاطر عدم أنسنة العلوم والتكنولوجيا، وإخضاعها للمادية البحتة ولغة المصالح، وتجريدها من القيم. فلو كانت العلوم مؤنسنة والسياسة أخلاقية ما رأينا أحدث الأسلحة موجودة في أشد المناطق فقرًا وجوعًا وأكثرها موتًا ومرضًا وأوبئة، وما رأينا أطفالًا ونساءً ورجالًا يموتون في الصحاري وعلى شواطئ البحار في رحلات كانوا يأملون من ورائها الحياة والنجاة من الموت، وما رأينا الطلقات النارية تأتي من دول العلم وحقوق الإنسان، لتخترق رؤوس الجوعى ورؤوس الأجنة في بطون أمهاتهم، وسط دعم وتصفيق غير أخلاقي ممن يدعون القيم.
إن الحضارة الإنسانية ليست مجرد تقدم في المباني والاختراعات فحسب، بل هي نِتاج لتقدم إنساني وقيمي، فلا خير في تقدم لا يكون الإنسان مركزه والقيم أدواته. ولنا خير المثل في مصرنا العزيزة وريثة الحضارات ودليل تكاملها؛ فما كان لتلك المنشآت الحضارية التي يبلغ عمرها ما يربوا عن السبعة آلاف عامٍ أن تصل إلينا ويأتي إليها الزوار من جميع أنحاء العالم إلا إذا كان من بناها يتحلى بالمسئولية والقيم الأخلاقية من صدق وأمانة وإخلاص في العمل.
يقول الدكتور "محمود حمدي زقزوق"، رحمه الله، في كتابه "الفكر الديني وقضايا العصر": ومن خلال تصفحنا لما ورد عن قدماء المصريين نجد أنفسنا نقف إجلالًا واحترامًا لأسلافنا الذين كانوا حريصين كل الحرص على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وإن نظرة على ما جاء في "كتاب الموتى" الفرعوني المأخوذ عن بردية "آني" نجد منظومة أخلاقية متكاملة شملت كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية... يقول "آني" معبرًا عن هذه القيم والحفاظ عليها في دفاع الميت عن نفسه... "سأقول لهم إني لم ارتكب إثمًا ولم أسرق، ولم أقتل، ولم أنطق بالأكاذيب، ولم أسبب ألمًا أو حزنًا أو بكاءً لأحد، ولم أرتكب الزنا، ولم أتعامل بخبث، ولم أرتكب الغش، ولم أتلصص على أحد أو أرتكب نميمة، ولم أكن حانقًا غاضبًا إلا من أجل الحق، ولم أغرر بزوجة إنسان، ولم أدنس نفسي أو أسبب الرعب لإنسان، ولم أرتكب الفحش، ولم أصم أذني عن كلمات الحق والعدل، ولم أمارس الكبرياء، ولم أشعل نيران خصام، ولم أحكم دون روية، ولم أسعَ في وشاية... ولم أحرم الرضيع طعامه".
فهذه فقرة واحدة توضح لنا ماهية الحضارة المصرية القديمة والقيم الأخلاقية لدى من شيدوها، وهي دليل دامغ على استيفاء حضارتنا للعنصرين اللازمين لبناء أي صرح حضاري وهما العنصر المادي والعنصر الأخلاقي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل لدينا مناهج تعليمية وبرامج إعلامية تعكس معالم هذه الحضارة وتبرز أخلاقيتها وقيمها بصورة محفزة للشباب على العمل والاقتداء بأسلافهم في جميع الحضارات؟
الإجابة لا. لأننا خرجنا بمادة التاريخ عن هدفها الأهم المتمثل في استعادة الوعي الحضاري والسير على نهج أسلافنا العظام.
إن من فوائد دراسة التاريخ تعريف الأجيال الحديثة أن من بنى الأهرام وأقام حضارة على ضفاف النيل هم أجدادنا، وأن من شيّد المتاحف والآثار التي يأتي إليها الزوار من جميع أنحاء العالم هم أجدادنا، وأن من شيّد المساجد العظيمة والكنائس التاريخية هم أجدادنا، وأن من حفر قناة السويس هم أجدادنا، وأن من أجدادنا من اكتشف ابتكارات عظيمة قامت عليها حضارات أخرى... كل هذا وغيره نعلمه لأبنائنا في مادة التاريخ بطريقة محفزة ومنهج يحرك طاقاتهم ويستنهض هممهم ويشحذ عزائمهم ويفجر مواهبهم ويعيد إليهم الروح الحضارية ويبعث لديهم الوعي والثقة بأنهم أصحاب حضارات عظيمة وأحفاد أناس عظام ملأوا الدنيا عملًا وعلمًا، ومن ثم لا يليق بهم إلا أن يقتدوا بأسلافهم ويسعوا لترك إرث عظيم للإنسانية كلها.
ولكن مما يؤسف له أن مناهجنا المدرسية وربما الجامعية لا تقوم بهذا الأمر كما يجب ولا تلبي هذا الطموح، بل تحولت إلى مجرد سرد أحداث لا يتقن البعض الهدف من قصها، وهو ما أثار الجدل مؤخرًا حول تدريس مادة التاريخ، وتناوله رواد وسائل التواصل بين مؤيد ومعارض، في مشهد أثار حزن من يحبون هذا البلد، ويعرفون عظم تاريخه الملهم.
حفظ الله مصر وكتب لأبناءها استعادة وعيهم الحضاري
———-
مشرف وحدة الرصد باللغة التركية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف