الخميس 19 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

من التقاليد العريقة في المملكة العربية السعودية استخدامُ العود كرمز من رموز الحفاوة وكرم الضيافة، حيث يتم حرقه عند استقبال الضيف، وفي المناسبات: رسمية كانت أو غير رسمية ، كالأفراح ، والأعياد ، والأعراس مظهرا من مظاهر الجود والسخاء، فتنبعث منه عند احتراقه رائحةٌ طيبة تجعل الأجواء أكثر استقبالا وترحيبا.
فضلا عن حرقه في المنازل، والمجالس، والأماكن العامة : كالمساجد ، والفنادق مما يعزز الروحانية، والجمالية في تلك الأماكن .
لذا تعد صناعة البخور وتجارتُه من القطاعات الحيوية النشطة في المملكة، حيث تزدهر صناعته خاصة في منطقة الأحساء ،كما تنتشر العديد من المتاجر الفخمة بشتى ربوع المملكة يتبارى فيها التجار لعرض أفخم الأصناف وأكثرها ندرة، إذ لكل نوع رائحته الفريدة ،وخصائصه المُمَيِّزة، بما يتناسب مع كافة الأذواق، وبما يستقطب روادا محليين وزوارا خليجيين . 
وتعد دول جنوب شرق آسيا (إندونيسيا ، تايلاند ، كمبوديا ، فيتنام ، ماليزيا ،الفلبين وشمال الهند ) الموطن الأصلي للعود.
 وخلال استضافتي بمنزل بعض الزملاء الأكارم بالمملكة حرص على حرق العود إكراما لي وحفاوة بي ، ثم سألني قائلا: هل تستخدمون العود في مصر؟
حقيقة التزمت الصمت عن الجواب برهة لعلمي أن العود يباع بالجرام كالذهب، بل إن هناك أصنافا منه يصل سعر الكيلو منها إلى مئات الآلاف من الجنيهات دون مبالغة .
ثم قلت له : كيف نحرق العود في مصر، ولدينا الياسمين ، والفل، وزهور البرتقال !!
 واستطردت في الجواب قائلا: إن قرية واحدة في مصر تُعطِّر نصف العالم برائحة الياسمين، إنها قرية ( شبرا بلولة ) في محافظة الغربية وتنتج مع عدة قرى أخرى ما يقرب من نصف إنتاج العالم من الياسمين الذي تفوح رائحته الكلاسيكية على مدار ستة أشهر كاملة ، بدءا من شهر يونيو وحتي شهر نوفمبر من كل عام .
  حيث تمر الرياح الشمالية عابرة تلك الحقول فتغترف منها رائحة الياسمين لتغمر بها الشوارع والمنازل على مسافات طويلة فتضفي على الأجواء المصرية طابعا باريسيا .
 لذا فلسنا بحاجة لأن نحرق عود كمبوديا والهند ، وحضرني إذ ذاك قول أبي تمام :
وإذا أراد اللـــه نشــر فضــيلة . طويت أتــاح لهـــا لسان حســـود
لولا اشتعال النار فيما جاورت . ما كان يُعرف طيب عَرف العود
 وقلت رحم الله أساتذتنا : كيف علمونا أن أبا تمام اتخذ من صورة اشتعال النار في العود حتى تنتشر رائحته صورة حسية يصور من خلالها فكرة زيوع فضيلة أصحاب الفضل على ألسنة الحساد.
ورحم الله أبا تمام شاعرا كبيرا خصب الخيال: أما وجد صورة غير صورة اشتعال النار في العود يصور بها انتشار الفضائل؟
 إن أفرادا وصحفا وقنوات وجماعات بل و دُوَلا، كأنهم قد اتخذوا من مقالة أبي تمام قانونا ودستورا، فلم يجدوا سبيلا ليعلم الناس بوجودهم إلا أن يكونوا كالعود، لا بد أن تشتعل النار حوله لتنتشر رائحته .
 فصاروا يحرقون كل شيء حولهم لا لهدف إلا ليتحدث الناس عنهم قائلين: إن هناك قناة تسمى الجزيرة، وجماعة تسمى كذا، ودولة تسمى كذا، فإذا أوشكت النار على الانطفاء أشعلوها مرة ثانية؛ لتفوح رائحتهم وسط غبار المنازل المتهدمة ودخان الحقول المحترقة ، ورائحة الجثث المتفحمة، وكأنهم يستمدون حياتهم ومجدهم من النيران المتأججة في كل شيء حولهم.
لذا كانت أفضل الطرق لمواجهة هؤلاء: تَجْويعُ نيرانهم، حتى إذا لم تجد ما تأكله أكلت نفسها وصارت رمادا تذروه الرياح .
لذا ليس على مصر وليس على السعودية أن تقدم وقودا لنيرانهم حتى تظل مشتعلة.
وليس على مصر ولا السعودية أن تحترقا كالعود حتى ينتشر عطرهما الزكي.
لأنهما من الدول التي تشبه الياسمين، ينتشر عطره في الأجواء عندما يسقى بالماء العذب. فتراه يفوح من سياساتهما الرشيدة وقيادتهما الحكيمة.
ثم إن للمملكة طيبا خاصا بها، يفوح من حسن استقبالها ، وكرم ضيافتها لزوار الحرمين الشريفين بصفة خاصة، وزوار المملكة بصفة عامة، يفوح من حسن معاملة ملايين المقيمين العاملين بها، يعيلون من رواتبهم أسرا وعائلات في بلدانهم .
ولمصر عطر خاص بها ـ أيضا ـ يفوح عبر الآلاف يتخرجون من الأزهر الشريف خاصة من أبناء دول جنوب شرق آسيا، وسائر دول العالم، يعودون لبلدانهم ينشرون شذى مصر وعبيرها في بلدانهم.
لمصر مسك خاص يفوح من علمائها وأبنائها المنتشرين في شتى بقاع الأرض يشهد لهم العالم بالتفوق والنبوغ ، والاستقامة وحسن الخلق . فقال لي مضيفي الكريم : صدقت .
 حفظ الله مصر عزيزة أبية، وحفظ بلاد الحرمين الشريفين آمنة مطمئنة، وسائر بلاد المسلمين من كل مكروه وسوء،ورزقنا وإياكم حسن الفهم ،ونفاذ البصيرة،وسلامة السريرة.

تم نسخ الرابط