الخميس 19 سبتمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

سبق الحديث عن أهمية الرضاعة الطبيعية للأطفال بالنسبة إلى الرضيع والمرضع على السواء، كما تم تأكيد إرضاع الأمهات ألبانهن لأطفالهن، خاصة اللبن الذي ينزل بعد الولادة مباشرة؛ حيث إنه يحتوي على التحصينات المناعية التي تحمي الطفل من الإصابة بالأمراض المتنوعة، ونظرا إلى هذه الأهمية لعملية الإرضاع الطبيعي للمواليد؛ حيث إن بعض الأمهات لا يتمكنَّ من إرضاع أطفالهن لأسباب مختلفة، كعدم إدرارها اللبنَ  لمرض أو نحوه، أو موتها عقب الولادة، فإن شريعتنا الغراء أجازت رضاعة الطفل لبنا من غير أمه التي ولدته، ورتبت على هذا الإرضاع تحريم المصاهرة من المرضِعة وأصولها وفروعها، ولجأت بعض الدول الأوربية إلى تأسيس بنوك تُجْمَعُ فيها ألبان من نساء كثيرات، ثم تعالج هذه الألبان في معامل خاصة، حيث تجفف غالبا، وتحفظ حتى يتم إرضاعها للأطفال خاصة الخدج بديلًا عن لبن أمهاتهم.
وقد تقلصت هذه البنوك في الغرب، وانحصرت في عدد قليل جدا؛ لصعوبات جمع الألبان وارتفاع تكلفة حفظها، إلا أن الفكرة راقت لبعض الجهات في الدول الإسلاميّة، فبدأت تتساءل عن حكم إنشاء هذه البنوك، وحكم تناول هذه الألبان، والآثار الشرعيّة المترتبة على تناولها؟
والمعاصرون بين مؤيد ورافض لفكرة إنشاء بنوك للبن الآدمي، ليس لكونها تنطوي على أمر محرم، ولكن لما يترتب على الإرضاع من تحريم المصاهرة، واختلافهم في ترتب هذا التحريم على ألبان هذه البنوك من عدمه، حيث يرى بعضهم: جواز إنشاء بنوك للبن الآدمي، وأن هذا اللبن لا يترتب عليه التحريم المرتب على الرضاع، واستندوا في ذلك على رأي بعض الفقهاء بأن التحريم لا يترتب على تناول اللبن إلا إذا كان مصًّا مباشرا من ثدي الأم، ولبن البنوك يُشرب شربا وليس مصا، قال ابن حزم في المحلى:  «وأما صفة الرضاع المحرّم فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط واستدل على ذلك بقوله – تعالى -: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، ولا يسمى إرضاعًا إلا ما أرضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع»، وحقيقة الأمر أن هذا القول في غاية الضعف، فاستخدام كلمة الرضاع في الآية خرج مخرج الغالب، فغالب النساء يرضعن أولادهن إرضاعا ولا تسقيهن سقيا، والتحريم المتعلق بالإرضاع سببه الخصائص الوراثية المترتبة على نمو جسم الطفل لحما وعظما بمكونات هذا اللبن، وهذا لا يختلف برضاع اللبن مصا أو شربه شربا؛ ولذا قال ابن نجيم: «إذا حلبت لبنها في قارورة فإن الحرمة تثبت بإيجار هذا اللبن صبيا، وإن لم يوجد المص» ، كما استدل أصحاب هذا الرأي بما ذكره فقهاء الحنفية من أن الطفل إذا رضع من نساء كثيرات غير معلومات في قرية، لا يحرم عليه الزواج من بناتها، وهذا الاستدلال كسابقه في الضعف، فهناك فرق بين تأسيس الأحكام وبين الحكم على الوقائع بعد حدوثها، فالحنفية حين قالوا بذلك لم يقصدوا بأن من أراد أن يزوج ولده من أي فتاة بقريته، فما عليه إلا أن يرضعه من نساء كثيرات غير محصورات من أهل القرية، حتى إذا كبر تمكن من الزواج من أي فتاة في قريته، بل قالوا بهذا لرفع العنت عن الذي رضع من نساء كثيرات، ثم أراد أن يتزوج من بنات قريته، فهو حكمٌ على الواقعة، وليس تأسيسَ حكمٍ للمسألة قبل حدوثها، وهذا أشبه بمسألة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن خطبة الإنسان على خطبة غيره، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال :" نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطِبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الخَاطِبُ»، والنهي الوارد في الحديث نهي تحريم، فلا يجوز لمسلم أن يفسد خِطبة أخيه فيخطب مخطوبته التي ركنت إليه ورضيت به خاطبا، لما فيه من إيذاء لمشاعر الخاطب الأول، ولا أن يبيع على بيعه لما فيه من تفويت صفقة فيها مصلحة لها، وقد تمسك الظاهرية بظاهر النص فأبطلوا ما ترتب على هذا التصرف المحرم، ولذا يفرق عندهم بين الخاطب الثاني ومخطوبته حتى لو عقد عليها ودخل بها، ويكون خاطبها الأول أحق بها، لكن جمهور الفقهاء عدلوا عن الحكم التأسيسي في حال زواج الثاني منها ودخوله بها، فصححوا عقد الزواج المعقود على هذه الخطبة الباطلة من حيث التأسيس، حيث لا مصلحة في إبطال عقد الزواج، فغالبا لن يقبلها الخاطب الأول الذي فسخطت خطبته، وهنا اختلف حكم العلاقة بين الخاطب الثاني ومخطوبته بين التأسيس و الحكم على ما بني على هذه الواقعة، فالأمر محرم من حيث التأسيس وما بني عليه صحيح تترتب عليه آثار الزواج الصحيح بعد حصول الزواج بالفعل، ومن هذا كثير في فقهنا.
كما أن هذا الذي ذهب إليه الحنفية من انتفاء التحريم عند وقوع الرضاع من نساء كثيرات من حيث تأسيس الحكم؛ غير مسلّم عند الفقهاء؛ فقد قال المالكيّة بتحريم جميع المرضعات ومن تفرع منهن عليه؛ ففي الذخيرة للقرافي: «وَلَو أَرْضعهَ أهل الأَرْض حَرُمْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ نِسَائِه».
كما علل أصحاب هذا الرأي لرأيهم بنظرية الاستحالة، فاللبن تجري عليه عمليات تصنيعية من تبريد وتجفيف، ويتحول من صورة سائلة إلى صورة جامدة أو مجففة، ولذا تنتفي عنه صفة التحريم بتحوله من حالة إلى حالة كالخمر إذا صار خلا فإنه يطهر.
وقياس اللبن المجفف على الخمر الذي تحول إلى خل فاسد؛ فإن الخمر إذا  صار خلا لا يعود خمرا، ويفقد صفة الخمر الأساسيّة وهي الإسكار، بخلاف لبن الأمهات فهو لا يفقد خصائصه وإن جُفف، كما أن اللبن المجفف يعاد إلى صورته السائلة التي كان عليها، وذلك بإعادة الماء الذي بخر منه عند تجفيفه، فكأنه لم يجفف، لهذا قال الإمام الشافعي في الأم: «ولو جُبِّنَ لهُ اللَّبَنُ، فأُطْعِمَ جُبْنا، كان كالرضاع»، وبهذا يتبين أن عمليات التصنيع التي تجري على اللبن لا تفقده صفة التحريم مادامت خصائص اللبن قد بقيت فيه، وهي باقية بعد التصنيع كما كانت قبله.
وبهذا يتبين أن جميع ما استند إليه القائلون بعدم ثبوت التحريم المترتب على الرضاع بألبان بنوك الألبان البشريّة لم يسلم منه دليل واحد، فكان رأيا ضعيفا لا يعمل به في أمر بُنِيَ شرعا على الاحتياط حفظا للأنساب من الاختلاط.
ويرى فريق آخر من المعاصرين: عدم جواز إنشاء هذه البنوك؛ حيث إنه يصعب الاحتراز عن  الزواج بالمحارم؛ حيث إن هذه الألبان تجعل كل صاحبة لبن من هذا اللبن المجمع أمًّا للراضعين منه، ويترتب عليه حرمة الزواج بين المرضعات والراضعين؛ وحيث إن صاحبات اللبن غير محصورات فلا يمكن التحرز عن الزواج من الأم أو الأخت ونحوهما من الرضاع، وهو ما يوقع في العنت الشديد الذي يمكن التحوط منه بعدم تأسيس هذه البنوك.
ويستدل لهذا الرأي بعموم الأدلة التي ترتب على الرضاع تحريم المصاهرة بين المرضع ومرضعته وفروعها وأصولها، وغيرهم من المنصوص على تحريمهم بالرضاع كالنسب.
وبعد تناول المسألة من جهة الفقهاء، فإنه يبقى جانب مهم لاستيفاء الموضوع وتحديد الموقف النهائي من تأسيس بنوك للألبان البشرية، وهو الوقوف على رأي أهل الاختصاص الطبي والغذائي، وهو ما يحتاج إلى تفصيل أعرض إليه في المقال الآتي بإذن الله.

نقلا عن صوت الأزهر

تم نسخ الرابط