لا يوجد مخلوق يقف في وجه البشر، محطما أحلامهم، ومبددا أمانيهم مثل الزمن.
أجل الزمن يقف في وجه البشرية التي استطاعت أن تُطوع الحديد فتصنع منه الطائرات ومركبات الفضاء، والسفنَ الضخمة والغواصات إلى غير ذلك من الميادين الأخرى التي قطع فيها الإنسان خطوات واسعة، أوهمته أنه يستطيع بعلمه ومبتكراته أن يسيطر على كل شيء فيطوعه لمراده وهواه.
إلا أنه في غمرة تلك النشوة يصطدم بالزمن، الذي يحد من طموحه ، ويكبح جماح أوهامه في كل مرة يتوهم فيها أنه سيطوعه وينتصر عليه.
كثير من الناس يتمنون عودة الشباب بعد أن غزا شعرهم الشيب ، وهجم على عظامهم الوهن، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيتمنون أن يظلوا شبابا يتيهون بصحتهم، ويتغطرسون بجمالهم.
وما كثرة عمليات التجميل، والإسراف في استخدام مستحضراته إلا أثر من آثار تلك الأماني التي يتمناها الأثرياء والفقراء على السواء.
أما الأثرياء وذووا النفوذ الحقيقي في العالم فقد صورت لهم أحلامهم أنهم يستطيعون التغلب على الزمن والانتصار عليه، فلا تدركهم الشيخوخة أصلا لأنهم يستطيعون الخروج من تحت تأثير الزمان.
جسد تلك الأوهام فيلم:( الركاب ـ Passengers ) الذي أخرجه النرويجي:" مورتن تيلد " وكتب قصته الأمريكي:" جون سباهتس "، وأنتجته شركة: كولومبيا بيكتشرز عام 2016م
حيث يتجه على متن سفينة بينجمية خمسة آلاف راكب ومائتين وثمانية وخمسون فردا هم طاقمها، يتجهون لتأسيس مستعمرة فضائية على كوكب أطلقوا عليه :(هومستيد 2) تم اكتشافه سابقا.
تستغرق الرحلة من الأرض إلى الكوكب الجديد مائة وعشرون عاما .
وهنا تأتي المعضلة، لأنه إذا أضيفت تلك المدة الزمنية لعمر الركاب فهذا يعني أنهم سيموتون قبل أن يصلوا إلى وجهتهم.
فيعمد المؤلف إلى اختراع ما يسمى ( كبسولات السبات ) ينام فيها الراكب، ثم يستيقظ بعد مائة وعشرين عاما على الحالة التي نام عليها، بما يعني أنه تم إخراجه من تحت تأثير الزمن.
ثم تتضرر السفينة بسبب عبورها حقل كويكبات ذو طاقة عالية، يستيقظ على أثر ذلك أحد الركاب ،هو (جيم بريستون ) لتضرر كبسولته، فيحاول بكل الوسائل أن يصلحها ليعود إلى السبات، خاصة أن تخصصه كان هندسة الميكاترونك، لكنه لم ينجح.
هذا يعني عودته للدخول تحت تأثير الزمن، وبالتالي وفاته قبل وصول السفينة لوجهتها.
وبعد مرور عام يشعر بالوحدة، وتهجم عليه الكآبة، رغم ما كان متاحا من وسائل الاستمتاع والرفاهية في السفينة، فيقرر العبث بكبسولة الشابة (أورورا لين ) ــ بعدما رأى حسنَها، واطلع على كافة البيانات الخاصة بها من كونها صحفية وروائية، مرحة، تملك روح الدعابة ــ لتكون رفيقة له في وحدته .
وتتعمق بينهما مشاعر الحب لتؤثر (أورورا) البقاء معه على الوصول لوجهتها خاصة بعدما قام بإصلاح أعطال حدثت للسفينة كادت أن تكون سببا في تدميرها.
وبعد مرور ثمانية وثمانين عاما تقترب السفينة من وجهتها، ويستيقظ الطاقم والركاب ليكتشفوا مندهشين وجود نباتات وأشجار ضخمة، كان جيم بريستون قد زرعها لمحبوبته أورورا والتي تركت قبل وفاتها لركاب السفينة رسالة تحكي لهم فيها ما حدث على متن السفينة مع حبيبها جيم
القضية هنا أن الفيلم يجسد أمنية (جون سباهتس) كاتب قصة الفيلم، والكثيرين غيره ، في أنه تغلب على الزمن عندما استطاع إخراج جميع الركاب من تحت تأثير الزمن ليصلوا بعد ما مائة وعشرين عاما إلى وجهتهم على حالتهم التي كانوا عليها عندما دخلوا كبسولات السبات الخاصة بهم وسط حالة من إلهاء المشاهدين بقصة الحب الرومانسية بين بطلي الفيلم: جيم وأورورا اللذين ظلا تحت تأثير الزمن.
ما تحكيه أحداث الفيلم من التغلب على الزمن مجرد أمنيات وأحلام ،لأن إخراج أحد من تأثير الزمن لا يقوى عليه إلا الله سبحانه وتعالى .
حدث هذا في عالم الواقع، وقصة أصحاب الكهف في القرآن الكريم شاهدة على ذلك، بدليل أنهم بعدما لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة نياما ثم استيقظوا، اعتقدوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم.
وهذا يعني أنهم استيقظوا بعد هذه المدة الطويلة على الحالة التي كانوا عليها، أي أنهم أُخرجوا من تحت تأثير الزمن، يقول الحق:" وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا" سورة الكهف/25ويقول :" وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ" سورة الكهف /19
وكذلك قصة :"حِزْقِيَالُ ابْن بُوزِي، أحد أنبياء بني إسرائيل، أو:عُزَيْرُ بْنُ شَرْخِيَا، عند مروره على قرية خُرِّبتْ أشد التخريب، فاستفهم استفهاما إنكارٍيا مستبعدا: " أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ " فأماته الله مائة عام ثم بعثه ليريه قدرته ـ سبحانه ـ كيف تكون في إحياء القرى والمدن الخاوية على عروشها متجسدة فيما يلي :
أولا: قدرته ـ سبحانه ـ على الإخراج من تحت تأثير الزمن متجسدة في بقاء طعام الرجل وشرابه على حالته التي كان عليها منذ مائة عام .
ثانيا : قدرته ـ سبحانه ـ على الإبقاء تحت تأثير الزمن متجسدة في حمار الرجل الذي تحلل جسده بفعل مرور الزمن.
ثالثا : قدرته ـ سبحانه ـ على إحياء الموتى متجسدة في إعادة الحمار إلى الحياة مرة ثانية .
يقول الحق: "أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ" سورة البقرة/259
هذا مما اختصت به القدرة الإلاهية والذات العلية، فسبحانه هو الذي يقول للشيء كن فيكون ،لا يحول بينه وبين ما يريد زمن ولا قانون.
والمؤمن الحق هو الذي يحسن الظن بالله، ويجتهد في الطاعة والعبادة، ويسعد بتقدمه في السن، لأنه يزداد بكل يوم قربا من لقاء الحق البر الرحيم، أما أن يتشبث بذيول الشباب متمنيا عوته فهذا ليس من شيم الصالحين، لأنه يتمنى بذلك ما يبعده عن لقاء ربه .
" قيل لأعرابي : إنك ميت. فقال : وماذا بعد الموت ؟ قيل له : إلى الله تعالى .
قال : فما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه "/ كتاب المحتضرَين لابن أبي الدنيا ،ص:38
اللهم إنا نسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، والشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم ، وحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، وتوفيق قادتها لما فيه الخير والنماء .