قد لا توجد في الظاهر صلة بين وفرة النشاط، والبركة في العمر، والسعة في الرزق، بل وأضف إليها الصحة في الجسد .
لكن عندما نقرأ في نظرية "النسبية العامة" general relativity" التي أطلقها الألماني آلبرت آينشتاين في 1915م حول العلاقة بين الأجسام التي تتحرك بسرعات متزايدة أو متناقصة نجده يستنتج فيها:
أن لكل جسم زمنه الخاص به، يطول هذا الزمن ويقصر حسب حركة كل جسم، وكلما كانت حركة الجسم أسرع تباطأت عقارب ساعته، ويزداد هذا التباطؤ مع زيادة السرعة .
وقديما كان الإنسان قد أدرك أن لكل مكان أبعاد ثلاثة هي : الطول، والعرض، والعمق أو الارتفاع ، فاستطاع أن يقيس المساحة، ويعرف الحجم .
ثم جاء أنشتاين فأضاف البعد الرابع وهو الزمن، ليصبح لكل مكان أربعة أبعاد طول ، عرض، وارتفاع أو عمق، وزمن .
وهذه الأبعاد يمكن رسمها باستثناء الزمن لا يمكن رسمه لعدم رؤيته، بل يمكن فقط تخيله لأننا نعيشه.
ومقاييس الطول والعرض والارتفاع أو العمق وحتى الزمن معروفة للجميع، ولا تختلف من شخص لآخر أو من مكان لآخر إذا كانت مُعَايرة بدقة، فيمكن أن نقول بأنها مقاييس مطلقة.
لكن مع نسبية أنشتاين لا شيء مطلق، فالدقيقة 60 ثانية بساعتك أنت، وبساعة انسان آخر يتحرك بسرعة تكون أقل من ذلك.
وكذلك المتر بالنسبة لمتحرك بسرعة يقل عن طول المتر في يدك،وكلما زادت سرعته قل طول المتر عنده حتى يصبح طول المتر صفرا إذا كان يتحرك بسرعة الضوء، بما يعني أن المسافات تتناقص مع زيادة السرعة حتى المسافة صفر .
وهكذا كل شيء نسبي حتى وأنت جالس أمام مكتبك تعتقد أنك ثابت لا تتحرك، لكن ذلك بالنسبة لما هو حولك، وبالنسبة للأرض، لكن بالنسبة للكون فأنت وكل شيء حولك يتحرك، ليس حركة واحدة، بل أكثر من حركة، فأنت تتحرك مع حركة الأرض حول محورها، وتتحرك مع حركتها حول الشمس، وتتحرك مع المجموعة الشمسية داخل مجرة، والمجرة تتحرك بالنسبة للكون وهكذا.
وما دمنا نعيش في عالم له أربعة أبعاد الزمن واحد منها، وقد اعتاد الناس قياس الزمن بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة والقرن الخ، فقياساتهم تلك نسبية أيضا؛ لأن الزمن نفسه يختلف باختلاف المكان، فالسنة عندنا 12 شهر، وعلى عطارد تساوي 3 أشهر وعلى كوكب الزهرة تساوي حوالي 224يوما بقساساتنا.
وهكذا إذا انطلقت بخيالك الفسيح في أرجاء الكون فإن الزمن يختلف من كوكب لآخر ومن مجرة لمجرة، وستدرك من خلال حساباتك أن قيسات الأزمنة والمسافات الأرضية تعجز عن قياس الزمن والمسافات في أرجاء الكون الفسيح .
يقول الحق : "تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَةٖ " سورة المعارج/4
لذا لجأ الفلكيون والفيزيائون إلى مقياس بديل للمسافات الكونية هو:( سرعة الضوء) والتي تبلغ 300 ألف ك/ م في الثانية الواحدة، والدقيقة بها 60ثانية، والساعة بها60 دقيقة واليوم به 24 ساعة ، فلو ذهبت تحسب سرعة الضوء في اليوم في الشهر في السنة لوصلت إلى أرقام فلكية .
فإذا علمت مثلا أن ضوء الشمس يصلنا بعد 8 دقائق ضوئية، وإذا علمت أن أقرب نجم للشمس في مجرتنا يبعد عنها أربعة سنوات ضوئية، وأن أبعد نجم عنها داخل نفس المجرة يبعد (8000 ) سنة ضوئية ، وأن مجرتنا تبعد عن المجرات المجاورة عشرات آلاف ملايين السنين الضوئية.
أدركت اتساع الكون الذي لا يحيط به إلا الله الذي وسع كرسية السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما." وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ" سورة البقرة/255
وما تحدث عنه أنشتاين ووقف الباحثون أمام فرضياته سبق إليه القرآن عندما صرح بالمدة الزمنة التي لبثها أهل الكهف، وأنها تختلف بالنسبة إلى الشمس عنها بالنسبة إلى القمر، فذكر القرآن أنهم لبثوا( 300 ) سنة بالنسبة إلى التوقيت الشمسي و(309 ) بالنسبة للتوقيت القمري.
يقول الحق: "وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا "سورة الكهف / 25
وهكذا لو حسبت هذه المدة بتوقيت عطارد لقيل إنهم لبثوا (1245) سنة ، وبتوقيت كوكب الزهرة يكونوا لبثوا( 451 ) وبتوقيت المريخ ( 59.5) .
وهكذا يظل الزمن نسبيا حسب الجسم المتحرك وسرعة حركته، بما يعني أن لكل شيء متحرك زمنه الخاص به لذا قال الحق بعدها :" قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ " سورة الكهف / 26.
وبزيادة سرعة الجسم ينكمش زمنه، فمثلا لو قلنا المسافة بين القاهرة والاسكندرية( 120) ك متر قطعها راكب بوسيلة مواصلات سرعتها( 240) كم ساعة، وقطعها آخر سيرا على الأقدام بسرعة(60) كم في اليوم .
فهذا يعني أن زمن الأول قد انكمش مع السرعة فأصبحت ساعته تعادل 4أيام ويومه يعدل 96 يوما بالنسبة للماشي؛ لأنه استغرق للوصول( 30) دقيقة فقط .
لكن بما أنهما يعيشان في كوكب واحد ومقاييس الزمن واحد ، فإن انكماش الوقت بالنسبة للمسرع يعني توفر الوقت واستطالته بالنسبة للماشي، بما ينعكس إيجابا على حياته، فيستطيع أن ينجز الكثير من الأعمال في الوقت الذي ما زال فيه الماشي لمَّا يصل لوجهته .
أقول هذا لننظر بعين الإنصاف إلى ما أنجزته الدولة من طرق سريعة، ومحاور، وكباري وقطارات سريعة يسرت حركة الناس، فصار يُقطع في دقائق ما كان يقطع في ساعات، بما ينعكس إيجابا على حياة الناس، فيوفر لهم أوقاتا أقل ما توصف به أنها ثمينة بما يستوجب ضرورة حسن استغلالها.
فضلا عن آثارها الإيجابية على الصحة العامة للناس، فيبدون أصحاء رغم بلوغهم سن التقاعد، ويبدون أقل من أعمارهم الحقيقية.
ولعل هندسة "ذا لاين" بـ "نيوم" ، وفكرة الأبراج الضخمة المتكاملة، وتوسيع قاعدة الجامعات والمدارس، تنبع من ذلك كونها تختصر أبعاد المكان أو بعضها، فتتيح أوقاتا كانت تهدر مع طول تلك الأبعاد .
لذلك لم يكن غريبا أن يأمر القرآن بالسعي، بمعنى الاشتداد في المشي الذي يتوقَّى به الماشي التأخر في قوله تعالي : "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ " سورة الجمعة/9
لم يقل مثلا: فلبُّوا النداء، ولم يقل: فاذهبوا، بل قال: " فَٱسۡعَوۡاْ " بما يعني السرعة التي تنشأ معها بركة في الوقت، فيكون ترك البيع لأجل السعي إلى الصلاة ليس إهدارا للوقت بل زيادة فيه، وأن وقت التاجر مع البقاء في تجارته منصرفا عن السعي أو التكاسل فيه كحال المسافر مشيا لا بركة فيه.
ولم يكن غريبا أن يقول الحق:" وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ"سورة البقر/148 ويقول : " إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ " سورة الأنبياء/ 90 ويقول:" وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ" سورة آل عمران/133
فالمفسرون وإن ذكروا أن الاستباق، والمسارعة مستعارتان للحرص، وصرف الهمة، والجد، إلا أنه يمكن القول في ضوء ما سبق بأن الاستباق والمسارعة قد تعنيان: توسيع قاعدة الخيرية، ويكون ذلك بإنجاز عدد أكبر من الخيرات بسبب ما يتاح مع الاستباق والمسارعة من وقت يسمح بتكرر الأفعال المستوجبة لرضا الله أو تنويعها.
فأحسنوا استثمار فضل أوقاتكم، وسارعوا إلى مغفرته، واسعوا إلى ذكره، واستبقوا الخيرات وسارعوا فيها يباركْ لكم في أوقاتكم، وأعماركم، وأرزاقكم، ولا تنجزوا عمل ساعة في يوم، فهذا من إهدار النعمة وأسباب الخسارة.
بارك الله لنا جميعا في أوقاتنا ، وفي أرزاقنا ، وبارك في بلادنا، ووفق قادتها لما فيه الخير والنماء والاستقرار .