الخميس 07 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

أحب اليهود الأستاذ عباس العقاد واعتقدوا في البدء أنه نصيرهم العظيم الذي يكافح أعداءهم ويتصدى لمُبغضيهم، ومنشأ ذلك الحب حسبما تصوروا حينما ألف كتابه هتلر في الميزان عام 1940م، وهتلر كما أذاع اليهود أكبر عدو لهم في الحياة وتاريخ المحارق لبانة يمضغونها دوما على ألسنتهم ليستدروا بها عطف العالم ويقيموا لأنفسهم على سمعتها حقوقا مغتصبة منهوبة.
بدأ بعض اليهود يحضرون صالون الأستاذ العقاد ومنهم من كان يحاوره وينقشه في مسائل الأدب والعلم، وكان منهم من يطلق عليه بأنه الحاخام الأكبر كأكثر وأبرع المفكرين معرفة بتاريخ اليهود، ولكن العقاد لم يكن يبغض أحدا أكثر من اليهود، ولم يكن يطيق في حياته من صفات البشر مثل الصفات التي جُبل عليها اليهود، فقد كان من أكثر الناس دراية وخبرة بألاعيبهم ومؤامراتهم.
العقاد الكبير كان يؤمن ويصرح بأن اليهود ليسوا كما يشاع عنهم أذكياء بل هم أغبياء وأنهم غير مبرزين في ميدان الذكاء ففي كتاب ذكريات ومطالعات للأستاذ الشاعر الكبير العوضي الوكيل يقول سئل العقاد عن ذكاء اليهود فذكر أنهم غير مبرزين فيه وقال: إن هناك قصة تروى في القرآن تدل على مقدار الذكاء اليهودي وهي قصة إخوة يوسف وهم من أئمة اليهود عندما جاؤوا أباهم بقميصه ملوثا بالدم الكذب وقد فاتهم أمر هام لا ينبغي أن يفوت شخصا عاديا في تدبير أمر، فاتهم أن يخرقوا قميصه حتى تظهر آثار أنياب الذئب، فالقميص كان سليما تماما، ولقد قال لهم أبوهم: أي ذئب حكيم هذا الذي يأكل يوسف ويترك القميص سليما بلا خرق.
كما العقاد كان ذكيا ذو فراسة داهية، يستطيع بها أن يعرف اليهودي من كلامه واستدلالاته، ويستظهر حقيقته دون عناء، إذ يروي الأستاذ أنيس منصور قصة شاب يهودي حضر لصالون العقاد وجرى بينه وبين الأستاذ نقاش قبل أن يسأله عن اسمه إذ لم يتسع الوقت لذلك، فقال له الأستاذ أن يبدي رأيه في مسألة تتعلق بجماعة (شهود يهوه) التي تبدي بعض آراء لا ترتضيها اليهودية ولا النصرانية، "فقال له: وأنت ماذا تقول يا مولانا؟ فرد هذا الشاب بقوله: إن هذه الأمراض تحتاج إلى جالينوس ذلك الطبيب الإغريقي العظيم.. أو إلى موسى الطبيب.

والتفت إليه الأستاذ بكل جسمه وقال: يا مولانا لقد أرحت نفسك تماما، فجعلت كل هذه المذاهب المتضاربة مرضا جسميا.. ولم تجد من الأطباء المعاصرين واحدا قادرا على شفائنا منها.. ولذلك فضلت الطبيب جالينوس الذي مات.. كأنك قررت أن المرضى أحياء وطبيبهم الوحيد قد مات!.. فلا علاج لأحد في هذا العصر.. ومن هذا الطبيب الآخر؟.. قال الزميل الجديد: إنه موسى الطبيب .. موسى بن ميمون.
فاندهش الأستاذ قائلا: ولماذا موسى بن ميمون بالذات؟ ألم تجد طبيبا آخر من عصر جالينوس حتى عصر موسى بن ميمون؟ لعلك تشير إلى ما قاله الشاعر القديم ابن سناء الملك
فهز الزميل الجديد رأسه.. ولم يتركه الأستاذ يروى ما قاله ابن سناء الملك فقال الأستاذ: إن
الشاعر ابن سناء الملك قد قال يمدح هذا الطبيب اليهودي أبو عمران موسى بن ميمون القرطبي الذي كان يعالج السلطان الملك الناصر صلاح الدين وولده الأفضل أيضا وقال: 
أرى طب جالينوس للجسم وحده
وطب أبي عمران للعقل والجسم 
فلو أنه طب الزمان بعلمه
لأبرأه من داء الجهالة بالعلم! 
تم التفت إليه الأستاذ ليسأله: وأنت يا مولانا ما الذي ألقى بك على الشاعر ابن سناء الملك؟ ... إنه ليس أحسن الشعراء ولا أقربهم إلى همومك ومشاكلك.. إلا إذا كنت.. هل أنت يهودي؟!
والتفت كل الحاضرين ليسمعوه وقد احمر وجهه تماما يقول: نعم ... وضحك الأستاذ من أعماقه: أنتم هكذا يا بني إسرائيل.. تشمون رائحة بعضكم البعض.. فأنتم لا ترون إلا أنفسكم في هذه الدنيا.. أنتم مشغولون بكل شيء له صلة بكم.. بل إنكم تحاولون أن تؤكدوا لأنفسكم ولغيركم أنكم مركز الكون.. أن كل الديانات خرجت من دينكم وخرجت على دينكم أيضا.. فأنت لا تحفظ من كل الذي قاله ابن سناء الملك، إلا الذي نظمه مدحا في الطبيب الفيلسوف ابن ميمون. شيء عجيب.. ربما سبب ذلك أنكم أقلية في كل زمان. ولذلك تريدون أن تؤكدوا لأنفسكم أن الأغلبية مشغولة بكم وحاقدة عليكم.. وهي حاقدة عليكم لأنكم أفضل منها، ولأنكم مصدر عقائدها وثرواتها.. وحاولنا بعد هذه الندوة أن تؤكد لصديقنا شاءول هراری: أن الأستاذ يداعبه.. وأنه لا يقصده وحده.. وأنه كثيرا ما شتمنا جميعا، وهو لا يقصد إهانة أحد، إنما يسخف أفكارنا وليس أشخاصنا وهو يوقظنا بعنف."
ومن هذا الرد يتبدى لك رأي الأستاذ في اليهود ووصفه لعنصريتهم البغيضة وقدرته على اكتشافهم ومعرفة شخوصهم من حديثهم والتعرف على ألاعيبهم وخفاياهم، وقد حدث ذلك عمليا حينما عرض عليه بعض اليهود وقد أرادوا أن يمارسوا عليه ألاعيبهم أن يكتب عن (عبقرية الكليم) أو عن (موسى بن ميمون) وسوف يساعدونه ويوفرون له مئات المراجع اللازمة لعملية التأليف، وأنهم سيترجمون الكتاب إلى عشرات اللغات الأخرى؛ ولكن العملاق رفض هذه المساومات الرخيصة وفطن إلى هذا المكر الخبيث وما يقف خلفه من تحزبات صهيونية وتستغلهم لمآربهم العنصرية.
وحينما تطالع كتاب العقاد الصهيونية العالمية الذي ألفه عام 1956 يخيل إليك أن الكتاب قد ألفه صاحبه هذه الأيام، وتدرك من عمق التحليل وسعة الرؤية مدى إحاطة العقاد بمصير إسرائيل وفهمه للطبيعة اليهودية، وتنبأه بمصيرها المحتوم.. فها هو العقاد يكشف زيف ما يدعى بالثقافة اليهودية فيقول: 
"نعود إلى دعوى النبوغ في العلوم والفنون، فلا نرى أن الصهيونية أنشأت لها ثقافة مستقلة قط في زمن من الأزمان، وإنما يستفيد الصهيونى الألمانى من ثقافة ألمانيا، ويستفيد الصهيونى الإنجليزى من ثقافة إنجلترا، ويستفيد الصهيونى الأمريكى من ثقافة أمريكا»، أى أن نبوغ البعض منهم فى بلد ما يرجع إلى ثقافة ذلك البلد، وليس إلى ديانة اليهودى، ويضيف «العقاد»: "وقد كانت فى الإسكندرية مكتبة جمعت مئات الألوف من المجلدات في الطب والفلك والجغرافيا والحكمة والرياضة وسائر العلوم، فكم كتابًا كانت فيها من تأليف الصهيونيين الأقدمين؟ لا كتاب! ولا أثر ولا ثمرة"
ويصرح العقاد بمصير ونهاية إسرائيل حين يقول: "إن إسرائيل هى القضاء المبرم على إسرائيل!" 
أي أنها تحمل في معنى وجودها عوامل زوالها ثم يشرح برؤية المحلل الخبير ما يدركه اليهود أنفسهم من سبل وجودهم ومستقبلهم فيقول: "إن كل جهود الصهيونية العالمية تنحصر الآن في غاية واحدة.. الصلح مع العرب واستبقاء نفوذها في البلاد الأمريكية.. فالواقع أن إسرائيل هالكة لا محالة إذا استمرت مقاطعة العرب لها سياسيًا واقتصاديًا.. ولهذا يتعمدون خلق المشكلات، عسى أن يؤدى البحث فى المشكلات إلى البحث فى الصلح، وعسى أن يؤدى البحث فى الصلح إلى فك الحصار السياسي والاقتصادي عن الدويلة القائمة على غير أساس"
والعقاد قد ألف هذا الكتاب في الخمسينات، لكنك مع قراءته تشعر أن صاحبه قد ألفه بالأمس، وهذا لا شك من بعد النظر، ودقة الفهم، وعمق التحليل واستدراك التاريخ وربطه بالحاضر، والفهم الغائر لطباع الجماعات والتنظيمات والأسس والوسائل التي تبلغ بها ما تريد.
كما فضح العقاد في وقت مبكر مؤامرات الصهيونية العالمية في السيطرة على العالم عبر الثقافة و الآداب والفنون،  ولا يكتفون بسلاح المال  والاقتصاد وإن يكن فيه الكفاية، لكنها تعمل على السيطرة على الثقافة العالمية مباشرة، فنراها تتشعب إلى كل مركز من مراكز الثقافة والدعاية من بعيد  أو من دورة ملفوفة لا تفطن لها الأنظار، وكانت لهم وسائلهم للسيطرة على ثقافة العالم والتي تتمثل في أربعة وسائل وهي:
- الصحافة العالمية 
- شركات الإعلان التي لها اتصال وثيق بالصحافة 
- شركات النشر والتوزيع
- هيئات الثقافة العالمية
ويرى العقاد أن الصهيونية ترى أن هذه الوسائل الأربع كافية لتمكينها من السيطرة على الكُتَّاب والقراء مما لا تتيسر لقوة عالمية أخرى حيث تتمكن من الصحافة بالمساهمة في رؤوس الأموال والمساهمة في التحرير والمراسلة والمساهمة في السبق إلى الأخبار والأسرار.
لكن وسيلة شركات الإعلان من أنفذ وسائل الصهيونية كما يرى، لأن الصحف التي تطبع بالملايين في الدول الغربية لا تستغني عن الإعلانات، ولا تعوض نفقاتها من البيع والاشتراكات السنوية، ولكنها مغيثها الوحيد هو الإعلان، ومن ثم كان من المعروف أن الصحيفة التي تجازف بالموت هي الصحيفة التي تهاجم الصهيونية وتناهضها، فإن المساهمين في رؤوس الأموال وقتها يهددونها لتعدل عن مسارها، فيقطعون الإعلانات التي لا تستغني عنها وتتركها عرضة للإفلاس والاغلاق.
حتى الكتاب والأدباء المستقلون البعيدين عن الصحف وعالمها لا تتركهم الصهيونية بمأمن من وسائل طغيانها إذ نجد وسائل التوزيع والنشر والنقد بعض وسائلها في عالم التأليف والتفكير.
ثم لوح العقاد بالهيئات العالمية بعيدًا عن عالم الصحف والكتابة، والتي يفترض لها أن تخدم الإنسانية جميعًا إذا بها وهي هيئات لا تخطر على بال، تعمل على خدمة الصهيونية العالمية، وذكر اليونيسكو وانتشار اليهود في دواوينها ومجالس إدارتها ومديري حساباتها حيث تظهر أنها في خدمة الثقافة الإنسانية عامة، ولكنها على الخصوص تعمل لخدمة الصهيونية ومحاربة أعدائها.
 

ولم يفت العقاد أن يفضح أعوان الصهيونية العالمية في بلادنا الشرقية حينما تنصرهم وتكافئ أفرادهم وتمدهم بالمال والنفوذ، لا لشيء إلا لأنهم أغضبوا الإسلام ولم يغضبوا الصهيونية بفعل أو كلام.
وهو ما نراه اليوم ونشاهده بكثرة من تلك الثروات التي تهبط على بعض من أخذوا مسار التشكيك في الدين ومحاربة الثوابت الدينية والخروج على العقيدة الإسلامية، فحقيقة هذه الثروة مكافأة لهم من الصهيونية العالمية على عملهم الذي يصب بقوة في خدمة أغراضهم.
بل ذكر تأثير الدعاية العالمية التي تسيطر عليها الصهيونية، والتي تخدم بها الكتاب والمؤلفين والأدباء، لا لأنهم أدباء نابغون نابهون أو كتاب بارعون، وإنما لأنهم من خدام الصهيونية ولم يهاجموها يوما من الأيام ويعملون بمناهجها وأساليبها وينفذون مخططاتها ، يقول العقاد: " وليس على حضرات القراء عناء كبير للتحقق من هذه القاعدة ، فحسبهم أن يلتقطوا خمسة أسماء أو ستة من أصحاب الحظوة في الدعاية العالمية، فلن يجدوا واحدا منهم يعادي الصهيونيين، وقد يجدونهم جميعا خداما للصهيونيين السافرين أو المقنعين.
ومن هنا يتجلى لنا أن العقاد بحجمه ووزنه كان مسار إزعاج عظيم لليهود والصهيونية العالمية، بل من أكبر أعدائهم في فضح مساراتهم ومخططاتهم وكشف حقائقهم أمام العالم كله.
لقد كان كتاب العقاد (الصهيونية العالمية) من أشد الكتب المزعجة للصهيونية وإسرائيل.
هذا هو العقاد الذي حينما ألف عن هتلر أحبه اليهود، وحينما ألف عن الصهيونية العالمية كان أسوأ في أعينهم من هتلر ذاته، لأن اليهود أقدر الناس معرفة بخطورة القلم، ولقد كان كتاب العقاد من أكثر الضربات الموجعة التي وجهت لهم.

تم نسخ الرابط