كنت أقرأ في أكثر من كتاب حتى أهداني المستشار بهاء المري أحدث مؤلفاته، وسيرته الذاتية « قاضٍ من مصر ».
ركنت كله على جنب، وعشت مع قصة حياة القاضي الجليل التي يرويها في 620 صفحة.
لن أكلمكم عن سيرته الآن، فهي بحر زاخر باللؤلؤ و المرجان، ولربما لن أجيد الحديث عن تلك القامة القضائية والقيمة الأدبية بما يستحق، ولكني سوف أقطف لكم قصة قضية واحدة تدل على ما أُوتِيَ من حكمة وفطنة و حُسْن بيان..
أحداث القضية تقول أن:
« كميناً مدججاً جميع أفراده بالبنادق الآلية، وعدد يُقارب العشرة من ضباط، تحمل أكتافهم نجومًا ونسورًا وسيوفًا متقاطعة، عوائق مرورية تجبر السائقين على خَفْض السرعة؛ ليمرُّوا من خلالها بحركات ثعبانية عبر الكمين.
توقف قائد السيارة نصف النقل المحملة بالبرسيم، أحاط بها من الأمام ومن الخلف ومن الجانبين جنود مدربون على القفز السريع والصياح والجثو على الركبتين في ثوان، في لمح البصر وجهوا فُوَّهات بنادقهم إلى السيارة من جميع الجهات ضابطان يجريان نحو السيارة يجذب كل منهما باباً من بابيها؛ ليفتحه؛ نزل السائق القروي مبهوتاً رافعًا يديه إلى أعلى كما اعتاد أن يشاهد في الأفلام، ونزلت من جواره سيدة أربعينية في ملابس سوداء شبه بدوية رابطة الجأش، لم تعبأ بما رأته، ولم يهتز لها طرف، حذا حَذْوَ السائق اثنان آخران، كانا يستقلان السيارة فوق البرسيم، قبض الضابطان عليهم جميعاً، وسلموهم إلى آخرين للتحفظ عليهم.
عدد آخر من الجنود أكثر مهارة قفزوا فوق السيارة، ألقوا بالبرسيم على الأرض بحركات متلاحقة، وكأن شريطاً سينمائياً يحركه « المونتير» بتسريعه؛ لتمر اللقطات سريعًا، كي لا تُلمَح كامل معالمها، طبلية خشبية تكسو صندوق السيارة، انتزعوها في لحظات معدودة، وألقوا بها أرضًا هي الأخرى، وكأنها ريشة في مهب الريح، ورفعوا من تحتها خمسة بنادق آلية وصندوقاً خشبياً مملوءًا عن آخره بذخائر مما تستخدم على الأسلحة ذاتها.
السيدة غزاوية، لها مصاهرة مع عائلة من الزقازيق شرق البلاد، جاءت عبر الأنفاق واستجلبت السيارة بما عليها عائدة بها إلى بلدها، قالت بصوت أجش ورأس مرفوعة، هي أسلحتي والذخيرة ذخيرتي وضعتها في السيارة كما ضبطتموها، ومن فوقها البرسيم، وهؤلاء لا يعلمون عنها شيئًا، وضعتها بالسيارة في غيبتهم.
انعقدت المحاكمة، جميعهم في قفص الاتهام، واجهتهم بالتهمة، فلم ينكروا، حتى من أرادت المرأة تنحيتهم عن الاتهام، اعترفوا، تقدم الدفاع؛ ليبدي طلباته، علا صوتها من داخل القفص تطلب الحديث، استمرت في حديثها استكمالا لتبرير طلبها:
إنَّ السيدة فاطمة الزهراء ترافعت عن نفسها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام أبى بكر في قضية « فدك » حين صادر الأرض التي وهبها لها والدها سيد الخلق لما صالحه يهود هذه البلدة على أرضهم، لم يمنعها أبو بكر من المرافعة، ولم يمنعها زوجها الإمام علي من أن تذهب إليه، دعوني أقول ما عندي.
أطبق الصمت على القاعة، واشرأبت الأعناق إليها، تتابعها، والتزم الدفاع الصمت مع الصامتين، أحضرت المرأة أمام المنصة قالت بصوت ثابت قوى الطبقات متناسق الوتيرة :
« دخل الغاصبون بيتي، كما دخلوا من قبل أرضى، يعلمون جهادي وجهاد أولادي ضدهم ضربوا بناتي الثلاث وولدي الصبى ضربًا مبرحاً، لم نقبل إهانتهم لنا، قاومناهم بأيدينا ما استطعنا، جردوني وبناتي من ملابسنا أمام نجلي ، وأمام عساكرهم، حتى صرنا عرايا كما ولدتنا أمهاتنا ، حطموا ما في البيت دهسوا الطعام والشراب بأرجلهم، واعتبروا كل هذا مجرد إنذار، وخلُّوا سبيلنا بعد اعتقالنا أسبوعين.
صمتت المرأة برهة، ثم سحبت نفساً عميقاً، أخرجته زفرة حارة، ورفعت سبابتها اليمنى ويدها ترتعش وارتفعت طبقات صوتها دون أن تدري، واستكملت حديثها تقول:
غَلَى الدَّم في عروقي، شعرتُ بالمذلة والمهانة، أفقتُ من اللطمة، فشعرتُ بالعار، قرَّرتُ الثأر لي ولبناتي وولدي، لأرضي وعرضي، اشتريت البنادق الخمس والذخيرة بعدد أفراد أسرتي، خدَعْتُ السائق ومن معه وواريتها تحت البرسيم دون علمهم، ثم أطرقت برهة هي مقدار ابتلاع ريقها، وسحبت نفساً عميقاً، أخرجته تنهيدة حزينة، و بَدت علامات الإجهاد تنال من صوتها في هذه المرة وعادت تقول:
حكايتنا معروفة، وثقها صحافيون بالتصوير والفيديو ساعة حصولها، تجدونها منشورة على « يوتيوب » راجعوها يا سيدى القاضي، ولو كنتُ كاذبة اسجنوني.
تقدم محاميها إلى المنصة، رفع حافظة مستندات، ليقدمها:
عدة صحف محلية انطوت عليها الحافظة، تتصدر إحداها بالفعل صورة المرأة تفترش الأرض، وجنود مدججون بالأسلحة يجرونها عنوة، وفي الخلفية آخرون يقبضون على صبية، وفي الصحيفة الثانية كذلك، وفي الثالثة الحَدَث ذاته، وسُطّر من تحتها جميعاً تفاصيل ما قالت.
رفع الرجال الثلاثة أيديهم في القفص التماساً للحديث مثلها، أشَرْتُ لها؛ لتنتظر، سألتهم وهم في مكانهم عن مطلبهم، قالوا:
لا ليس كما قالت، نحن نعلم التفاصيل كلها، ساعدناها في مطلبها، لسنا أقل منها شجاعة، جئنا لها بالبنادق
والذخيرة، وتطوعنا لتوصيلها، من حقها أن تُدافع عن أرضها وعرضها.
الحضور مشدوهون، اتسعت العيون، وترقرقت فيها الدموع صاح أحدهم:
« الله أكبر » غلبته مشاعره فانطلقت منه الصيحة. فقد الإحساس بالمكان، فانصاع لانفعاله، وقف، واعتذر ، لم أقف عند فعلته، ولو لم يعتذر ما لُمته.
توقف الرجال عن الكلام، وسيطر على القاعة جو غريب. رُفِعَت الجلسة، وخَلَونا إلى المداولة، صراع رهيب بين دليل قوي ومنطق أقوى، حيرة بالغة، ومشاعر متضاربة، ووجوم يغيم على الوجوه.
لم أدرِ كم استغرقنا من الوقت في هذه المداولة التي بدأت بحديث العيون، ثم بتقليب الأمر على كل الوجوه، ثم كان الحكم بالإجماع « براءة » أما كيف كُتِبَت الأسباب، فكان فضلاً من الله، هدانا إليه، يؤدي
إلى ما أراد لهم عزَّ وجل من قضاء.
( انتهى حديث معالي القاضي الجليل )
***
أما الحديث عن سيادته وسيرته فَلَنا معه لقاء آخر عَسَى أَن یَكُونَ قَرِیباً.