ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

إن من أجل الطاعات والقربات التي يتقرب بها العبد لخالقه ومولاه جل وعلا طلب العلم النافع كي يعبد الله عز وجل على بصيرة ويبلغ دين الله تعالى للعباد على الوجه الذي أراده الله ، فما أحوجنا في هذه الأيام إلى التعرف من جديد على فضل العلم والعلماء فكما قيل: العلم شرف، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف.

أولا: فضل العلم ومكانة العلماء في القرآن الكريم:

إن المتأمل والمتدبر في القرآن الكريم يجد أن المولى سبحانه وتعالى قد أعطى العلم منزلة كبيرة ومكانة عالية ومن ذلك أن الله عز وجل استشهد بأهل العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده سبحانه وتعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)( آل عمران:الآية:108) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم ؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء(تفسير القرطبي4/40)، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :استشهد سبحانه بأولى العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده فقال:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ) وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانه بشهادة ملائكته، والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول. (مفتاح دار السعادة1/55).
ومنها: أنه سبحانه نفي التسوية بين أهله وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)( الزمر:9). قال الإمام البيضاوي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون.(تفسير البيضاوي1/60).
ومنها: أنه سبحانه جعل أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون فقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).(الرعد:19).

ومنها: أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد منه وهذا يعلم على فضل العلم وشرفه فقال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).(طه:114). قال الإمام القرطبي رحمه الله: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم (تفسير القرطبي 4/40).
ومنها: أن العلم حياة ونور والجهل موت وظلمة ، والشر كله عدم الحياة والنور، والخير كله سببه النور والحياة ؛ فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها قال تعالى:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).(الأنعام:122) كان ميتاً بالجهل قلبه فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نوراً يمشى به في الناس.
ومن أهمية العلم ومنزلته عند المولى تبارك وتعالى دعوته للنفرة والتفقه في الدين فقال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).(التوبة:122). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ندب تعالى المؤمنين إلى التفقه في الدين وهو تعلمه وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم وهو التعليم.(مفتاح دار السعادة 1/63)، ورفع الله تعالى درجات أولى العلم فقال تعالى:(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).( المجادلة : 11). قال الإمام ابن حجر رحمه الله: قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة.(فتح الباري 1/207)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية ، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم.
والعلماء هم أهل الخشية من الله سبحانه وتعالى : قال سبحانه : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).( فاطر: 28). قال الشيخ السعدي رحمه الله: فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية ،وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضل العلم ، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته. (تفسير السعدي صـ689)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
ومن فضل العلم وشرفه أنه سبحانه وتعالى أمر بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل ذلك كالشهادة منهم فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).(النحل:43) ، وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل على الأنبياء . 
وأهل العلم هم المنتفعون بأمثال القرآن قال الله تعالى:(وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ).(العنكبوت:43) قال البغوي رحمه الله: أي ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله.(معالم التنزيل:جـ6صـ243)، وقال ابن كثير رحمه الله: أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتعلمون عنه ، وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكى ويقول: لست من العالمين(مفتاح دار السعادة:صـ58).

ثانياً: فضل العلم ومكانة العلماء في السنة النبوية:

جاءت في السنة النبوية المطهرة أحاديث كثيرة تبين لنا فضل العلم ومكانة العلماء وما أعده الله عز وجل لهم من جزاء في الدنيا والآخرة ومن ذلك: أن طلب العلم فريضة على كل مسلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ).( أخرجه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم3913). قال الإمام البيهقي رحمه الله: أراد - والله تعالى أعلم- العلم الذي لا يسع العاقل البالغ جهله، أو علم ما يطرأ له خاصة فيسأل عنه حتى يعلمه، أو أراد أنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية، وقال الإمام البيضاوي رحمه الله: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد عن تعلمه، كمعرفة الصانع والعلم بواحدنيته ، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكيفية الصلاة ، فإن تعلمها فرض عين على كل مسلم أي مكلف ليخرج غير المكلف من الصبي والمجنون ، وموضوعه الشخص فيشمل الذكر والأنثى.(مشكاة المصابيح:جـ1صـ744).
ومن فضل العلم وشرفه أن طلب العلم طريق إلى الجنة: فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة ) رواه مسلم. قال الإمام القرطبي رحمه الله: أي: مشى في تحصيل علم شرعي قاصداً به وجه الله تعالى جازاه الله عليه بأن يوصله إلى الجنة مسلماً مكرماً.(المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم : جـ 6 صـ 684 )، وقال الإمام النووي رحمه الله: وفيه فضل المشي فى طلب العلم ، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى. (شرح صحيح مسلم 17/192)، وقال الإمام ابن حجر رحمه الله: فيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه ، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة.(فتح الباري 1/160).
ومنها: رضا الملائكة بطالب العلم ووضع أجنحتها له فعن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من سلك طريقاً يبتغى منه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم).(رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6297).
قال الإمام ابن حجر رحمه الله: قوله:( طريقاً) نكرها ونكر علماً: ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية ، وليندرج فيه القليل والكثير، قوله:(سهل الله له طريقا) أي في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة ، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة.(فتح الباري 1/160).
قال الإمام القرافي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم:(وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع): قيل: تكف عن الطيران فتجلس إليه لتسمع منه، وقيل: تكف عن الطيران توقيراً له، وقيل: تكف عن الطيران؛ لتبسط أجنحتها له بالدعاء، ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك لما فعلته فينبغي لكل أحد من الملوك فمن دونهم أن يتواضعوا لطلبة العلم؛ اتباعاً لملائكة الله وخاصة ملكه.(الذخيرة في فروع المالكية:المقدمة).
ومن فضل العلم وشرفه أن الفقه في الدين سبب من أسباب الحصول على الخير: عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً كما أن من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيراً إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل ، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً فإن الفقه حينئذ يكون شرطاً لإرادة الخير وعلى الأول يكون موجباً والله أعلم.(مفتاح دار السعادة صـ67)، وقال ابن بطال رحمه الله: فيه دليل على فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما يثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله والتزام طاعته وتجنّب معاصيه.(شرح صحيح البخاري لابن بطال1/154).

ومنها: أن العلم ميراث الأنبياء فعن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثّوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).(أخرجه الترمذي في سننه وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم2682). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم. (مفتاح دار السعادة صـ73 )، ومن فضل العلماء وشرفهم وعلو منزلتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم ورثة الأنبياء: عن أبى أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في بحره ليصلون على معلمي الناس الخير).(أخرجه الترمذي في سننه وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي حديث رقم 2685).

وفى بيان سبب تفضيل العالم على العابد يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الشيطان يضع البدعة فيبصرها العالم وينهى عنها والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها وهذا معناه صحيح فإن العالم يفسد على الشيطان ما يسعى فيه ويهدم ما يبنيه فكل ما أراد إحياء بدعة وإماتة سنة حال العالم بينه وبين ذلك فلا شيء اشد عليه من بقاء العالم بين ظهراني الأمة ولا شيء أحب إليه من زواله من بين أظهرهم ليتمكن من إفساد الدين وإغواء الأمة وأما العابد فغايته أن يجاهده ليسلم منه في خاصة نفسه وهيهات له، وقوله:(إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير): لما كان تعليمه للناس الخير سبباً لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سبباً لنجاته وسعادته وفلاحه وأيضاً فإن معلم الناس الخير لما كان مظهراً لدين الرب وأحكامه ومعرفاً لهم بأسمائه وصفاته جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويهاً به وتشريفاً له وإظهاراً للثناء عليه بين أهل السماء والأرض.(مفتاح دار السعادة صـ72).

وقال الإمام بدر الدين بن جماعة رحمه الله: واعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له وتضع له أجنحتها وإنه لينافس في دعاء الرجل الصالح أو من يظن صلاحه فكيف بدعاء الملائكة وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل التواضع له وقيل النزول عنده والحضور معه وقيل التوقير والتعظيم له وقيل معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقاصده ، وأما إلهام الحيوانات بالاستغفار لهم فقيل ؛ لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم الذين يبينون ما يحل منها وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ونفى الضرر عنها.(تذكرة السامع والمتكلم: صـ 52 – 55).

ومن فضل العلماء وشرفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالنضارة فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "(أخرجه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبى داود حديث رقم 3660 ، وصحيح سنن ابن ماجة حديث رقم 229)
قال الإمام المنذري رحمه الله: معناه الدعاء له بالنضارة وهى النعمة والبهجة والحسن ، فيكون تقديره : جّمله الله وزيّنه ، وقيل غير ذلك.(الترغيب والترهيب1/108).

ثالثاً: فضل العلم ومكانة العلماء عند السلف الصالح رضي الله عنهم:

جاءت عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم آثار كثيرة تبين لنا فضل العلم وشرفه وعلو منزلته في الدنيا والآخرة ومنها: ما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا العلم فإن تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والنصير في السرَّاء والضراء، والوزير عند الإخلاء, والقريـب عند القرباء، هو منـار سبيل الجنة، يرفـع الله به أقواماً يجعلهم في الخير قادة وسادة، يُقتدى بهم، يدل على الخير، وتقتفى به آثاره، يجعلك مع الملائكة والمُقَرَّبين، يسبِّح لك كل رَطْبٍ ويابس، تستغفر لك حتى الحيتان في البحر، وهوامُّ السِباع في البَر، به يطاع الله عزَّ وجل ـ وبه يُعْبَد الله عزَّ وجل، وبه يوحَّد الله عزَّ وجل، وبه يُمَجَّد الله عزَّ وجل، وبه يتورَّع الإنسان ـ يكون ورعاً ـ وبه توصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال والحرام. هو إمام العمل يلهمه السُعداء ويحرم منه الأشقياء)( جامع بيان العلم وفضله ( 77، 78)، وقال لقمان لابنه:(يا بنيّ لا تعلّم العلم لتباهي به العلماء أو لتماري به السّفهاء، أو ترائي به في المجالس، ولا تترك العلم زهدا فيه ورغبة في الجهالة، يا بنيّ، اختر المجالس على عينك، وإذا رأيت قوما يذكرون اللّه فاجلس معهم، فإنّك إن تكن عالما ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا يعلّموك، ولعلّ اللّه أن يطّلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون اللّه فلا تجلس معهم، فإنّك إن تكن عالما لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلا زادوك غيّا أو عيّا ، ولعلّ اللّه يطّلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم)، وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه لرجل من أصحابه: يا كميل:(العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النّفقة، والعلم يزكو بالإنفاق)، وقال رضي الله عنه أيضاً : كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ منه من هو فيه، وعن سفيان الثوري والشافعي رضى الله عنهما قال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه موت رواته فو الذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم فإن أحدا لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم.(إحياء علوم الدين:جـ1صـ8).

رابعاً: فضل العلم ومكانة العلماء في كلام العلماء والأدباء:

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: من أحب أن يكون للأنبياء وارثاً وفي مزارعهم حارثاً فليتعلم العلم النافع وهو علم الدين ففي الحديث:(العلماء ورثة الأنبياء) وليحضر مجالس العلماء فإنها رياض الجنة ومن أحب أن يعلم ما نصيبه من عناية الله فلينظر ما نصيبه من الفقه في دين الله ففي الحديث:(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ، ومن سأل عن طريق تبلغه الجنة فليمش إلى مجلس العلم ففي الحديث من سلك طريقا يلتمس فيها علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ومن أحب ألا ينقطع عمله بعد موته فلينشر العلم بالتدوين والتعليم ففي الحديث:(إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له(التذكرة في الوعظ صـ55).
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك ، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك لكان ذلك سببا إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة ، ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبط نظراءه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره.( مداواة النفوس1/21).
وقال أبو هلال العسكري رحمه الله: ولفضل العلم ذلت في التماسه الأعزاء، وتواضع الكبراء، وخضع لأهله ذوو الأحلام الراجحة، والنفوس الأبية، والعقول السليمة، واحتملوا فيه الأذى، وصبروا على المكروه ، ومن طلب النفيس خاطر بالنفيس، وصبر على الخسيس.
وقال الجاحظ رحمه الله: العلم عزيز الجانب، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ، وأنت إذا أعطيته كلك كنت من إعطائه إياك البعض على خطر.(الحث على طلب العلم 41).
قال أبو هلال العسكري معلقاً على كلام الجاحظ: وقد صدق، فكم من راغب مجتهد في طلبه لا يحظى منه بطائل على طول تعبه ومواصلة دأبه ونصبه، وذلك إذا نقص ذكاؤه وكل ذهنه ونبتت قريحته، والفهم إنما يكون مع اعتدال آلته، فإذا عدم الاعتدال لم يكن قبول ، كالطينة إذا كانت يابسة أو منحلة لم تقبل الختم، وإنما تقبله في حال اعتدالها ، وإذا أكدى الطالب مع الاجتهاد، فكيف يكون مع الهوينا والفتور، فإذا كنت أيها الأخ ترغب في سمو القدر ونباهة الذكر وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزاً لا تثلمه الليالي والأيام ولا تتحينه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان، وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة ، وأعواناً بغير أجر، وجنداً بلا ديوان وفرض، فعليك بالعلم، فاطلبه في مظانه، تأتك المنافع عفوا، وتلق ما يعتمد منها صفوا ، واجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم تذوق حلاوة الكرامة مدة عمرك، وتمتع بلذة الشرف فيه بقية أيامك، واستبق لنفسك الذكر به بعد وفاتك، ولأمر ما اجتهد فيه طائفة العقلاء، وتنافس عليه الحكماء، وتحاسد فيها الفضلاء، ولا يصلح الحسد والملق في شيء غيره. (الحث على طلب العلم 42).
قال الشيخ أبو هلال العسكري رحمه الله: فإذا كان العلم مؤنسا في الوحدة ، ووطنا في الغربة، وشرفا للوضيع، وقوة للضعيف، ويساراً للمقتر، ونباهة للمغمور حتى يلحقه بالمشهور المذكور، كان من حقه أن يؤثر على أنفس الأعلاق، ويقدم على أكرم العقد، ومن حق من يعرفه حق معرفته أن يجتهد في التماسه ليفوز بفضيلته فإن من كانت هذه خصاله، كان التقصير في طلبه قصورا، والتفريط في تحصيله لا يكون إلا بعدم التوفيق، ومن أقصر عنه أو قصر دونه، فليأذن بخسران الصفقة وليقر بقصور الهمة، وليعترف بنقصان المعرفة ، وليعلم أنه غبن الحظ الأوفر، وخدع عن النصيب الأجزل، وباع الأرفع بالأدون، ورضي بالأخس عوضاً عن الأنفس، وذلك هو الضلال البعيد.(الحث على طلب العلم 42).

كانت هذه بعض فضائل العلم وبيان مكانة العلماء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وبعض من أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم والعلماء الربانيين في عظيم فضل العلم وشرفه وعلو مكانة أهله العاملين به فما أحوج الأمة الإسلامية الآن لمعرفة قيمة العلم وأهله فبالعلم يكون التقدم والرقي، والنهضة الحقيقية على مستوى الأفراد المجتمعات والمؤسسات، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح إنه ولى ذلك والقادر عليه اللهم آمين.

تم نسخ الرابط