لم أجد في حياتي أحقر شأنًا ولا أكثر جرمًا ممن يستغلون رحمة الناس وصدقهم وأخلاقهم الطيبة ليوقعوا بهم في فخاخ النصب وشباك الاحتيال ويدخلونهم في دومات الحزن والاكتئاب والحسرة لطيبة قلوبهم وحسن نواياهم، فللأسف الشديد وجد المحتالون والنصابون في الآونة الأخيرة في مواقع التواصل الاجتماعي بابا مفتوحا على مصراعيه للنصب والاحتيال، وباتوا يستخدمون القصص الإنسانية الملفقة كوسيلة لجمع الأموال وطلب التبرعات بطرق غير مشروعة، فمن قصص الأطفال المرضى الذين يحتاجون إلى علاجات مكلفة، إلى نداءات بناء المساجد والمستشفيات أو دعم ضحايا الحروب في غزة ولبنان والسودان، تأخذ حملات التبرع طابعاً إنسانياً يستدر الدموع ويلهب المشاعر؛ لكنها تكون في كثير من الأحيان ضرباً من الاحتيال، وسبيلا للنصب والسرقة.
لطالما استغل المحتالون القضايا الإنسانية والقصص العاطفية لبث رسائل تؤثر في نفوس الناس وتدفعهم للتبرع وبذل المال، تخيل لحظة أن تصادف منشوراً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي عن طفل صغير يعاني من مرض نادر، ولا يوجد علاج له سوى عملية جراحية باهظة التكاليف في الخارج، تخيل أن ترى الطفل المسكين يبكي وأمه بجواره تصرخ في الناس : " أغيوثنا وأرحموا آلام الطفل المسكين"، ثم ماذا عليك أن تفعل أيها الطيب حين ترى الأبرياء في الدول المحيطة يبيتون في العراء؟ وليس لديهم ما يكفي حاجتهم من مأكل ومشرب ومأوى، تحيط بهم الأهوال من كل مكان، حين تسمع عن حروب وأزمات في غزة، أو معاناة اللاجئين في لبنان، أو المجاعات التي تضرب الفقراء في أدغال أفريقيا، هنا تجد حملات كبيرة تطالبك بالتبرع وتحويل الأموال على أرقام الكاش وحسابات البنوك؛ ولكن وللأسف الشديد هذه الأموال التي كان من الممكن أن تُحدث فرقاً في حياة الناس تذهب إلى جيوب محتالين لا يعرفون للرحمة طريقاً، ولا إلى الصدق سبيلا، ولا إلى الله هدايا ورسولا.
حقيقي من المؤلم أن نشهد مثل هذا الاستغلال لأخلاق الناس الطيبة؛ لكن الحقيقة هي أن المحتالين يلعبون على وتر حساس داخل كل إنسان، يستغلون الشعور بالذنب عندما نرى معاناة الآخرين ونتجاهلها، ويعتمدون على سرعة ردة الفعل العاطفية دون التفكير ملياً أو البحث عن مصداقية الجهة المتلقية للتبرعات، في عالم مزدحم بالمعلومات، يصعب على كثيرين التمييز بين الحقيقة والوهم، وهو ما يجعل هذا النوع من الاحتيال مزدهراً على مواقع التواصل.
وإذا أردنا التصدي لهذا النوع من النصب يجب أن يبدأ كل منا بالتفكير كثيرا قبل أن يتبرع، علينا أن نتعلم كيف نكون متعاطفين بحذر، وأن نبحث بدقة عن الجهات الخيرية الموثوقة التي تمتلك تاريخاً طويلاً من الشفافية والمصداقية، يمكننا أيضاً أن نبحث عن المحتاجين في محيطنا وشوارعنا، فهناك دائماً أسر تعاني في صمت وأطفال يحتاجون إلى غذاء ودعم، وهناك طلاب علم يحتاجون من يساعدهم ويمد لهم يد العون؛ لكنهم غير مرئيين على وسائل التواصل، إنهم في كل مكان من حولنا أيها الطيب، ولكنهم يفضلون الصمت على أن يسألوا الناس حاجاتهم حيث يصدق فيهم قول الله تعالى: " يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"
فالتواصل المباشر مع الأفراد المحتاجين والأسر الفقيرة، والتأكد من وصول التبرعات إليهم بشكل مباشر، يعدان من الوسائل الفعالة لضمان عدم ضياع الأموال في أيدي المحتالين، كما أن البحث عن المنظمات المحلية أو الجميعات الخيرية المعترف بها والتي تقدم تقارير دورية عن أنشطتها المالية يمكن أن يكون من الحلول الفعالة، في حال تعذر البحث عن الفقراء والمحتاجين في محيطك.
أيضا تحقق من أن الجهة المعلنة عن حملة التبرعات مسجلة رسمياً ولديها تراخيص قانونية لجمع التبرعات، ولا تتردد في الإبلاغ عن وقائع النصب والاحتيال إذا كنت من الأشخاص الذين لا يقعون في فخاخ الاحتيال بسهولة – وأحسبك كذلك – فلا تتردد في تحذير الناس الطيبة وفضح المحتالين وتقديمهم للمحاكمة حتى لا نقع فريسة سهلة في أيديهم.
وأخيرا أيه الطيب لا شك أن فعل الخير هو من أسمى القيم الإنسانية التي طالب بها الدين، وحثت عليها الشرائع؛ لكنه في الوقت ذاته يتطلب وعياً وحذراً، علينا ان نمنح التبرع والإحسان للمحتاجين الحقيقيين، ولنستخدم ذكاءنا للتحقق من مصداقية كل حملة تبرع نصادفها، بذلك نكون قد حافظنا على روح الإحسان نقية، وضمنا أن تصل المساعدات إلى من يستحقها فعلاً.