كيف تجلت نية القتل وسبق الإصرار والتحريض في واقعة قتل الحسن بن علي ..!
وسار الحسن والحسين إلى المدينة وكانا كلما نزلا بقبيلة قالوا للحسن:
يا عار المؤمنين!
فكان يقول لهم في هدوء:
العار خير من النار
ما كان الحسن يغضب لتسفيه رأيه فيما أتاه من مهادنة معاوية ، فقد كان يعلم أن وجه الحكمة فيما أتاه ملتبس ، فالخضر عليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره الخضر فرضى.
كان الحسن يذكر لاعنيه دائماً بالدماء التي سالت في صفين فبغض أن يسوق الناس إلى الموت فقعد عن الخروج لملاقة معاوية حقناً لدماء المسلمين ولما علم معاوية بذلك استأمنه بقوله فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدى .
قبل الحسن بالوعد ليس من أجل الخلافة بل لأنه خشى كما قال أن يأتي يوم القيامة سبعون أو ثمانون ألفاً تشجب أوداجهم دماً .
لكن معاوية لم تفارقه فكرة استخلاف يزيد من بعده وكان لابد أن ينكص وعده وأن يحنث يمينه وبدأ يأخد البيعة .. تارة بالذهب وتارة أخرى بالسيف لكن الحسن وحيداً بلا سيف ظل شوكة تقض مضجعه هو ابنه وهنا تفتق الشر في ذهنه واستعرت النيران في صدره من هذا المسالم الذى لا سيف معه وكان أبشع تحريض ريما عرفه التاريخ على القتل .
راح معاوية يستعرض أزواج الحسن فوجد في جعدة بنت الأشعث ضالته ، فأبوها الأشعث بن قيس كان ممن أرغم الإمام علي أباه على التحكيم وأنه ليطمع أن يجد في ابنته عوناً على الخيانة .
دس إليها معاوية:
أنك لو احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم وزوجتك يزيد .
زرع في عقلها الجريمة وكان عقلها خالياً منها . وراحت جعدة توازن بين ما يعرضه عليها معاوية وبين بقائها في كنف الحسن فاختارت الأولى وظل معاوية يوسوس لها حتى اختمرت الجريمة في عقلها ودست السم لزوجها الآمن فمزق السم أحشائه يوماً بعد يوم حتى قال الحسن وهو في النزع الأخير لقد ألقيت طائفة من كبدى وإني سقيت السم مراراً فلم أسقه مثل هذه المرة .
ومات الحسن مقتولاً بالغدر قبل السم . وكانت آخر كلماته لأخيه الحسين:
"يا أخي قد حضرت وفاتي وحان وقت فراقي لك وإنى لاحق بربي وأجد كبدي تقطع وإني عارف من أين ذهبت وأنا أخاصمه إلى الله تعالى"
بعثت جعدة إلى معاوية تلتمس منه الوفاء بما وعدها به فوفى لها بالمال وأما يزيد فبعث إليها يقول: إنا نحب يزيد ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه .
يقول الأستاذ عبد الحميد جودة السحار في كتابه حياة الحسين:
"عشر سنوات تقضت بعد استتباب الأمر لمعاوية فنال ما يشتهي ولم يبق له إلا أمنية واحدة، كان يرجو أن يبايع الناس ليزيد فيقر بذلك عينا، ولكن بقاء الحسن حياً يجعل تحقيق هذه الأمنية عسيراً وأخذ يقدح زناد فكره فسقط على فكرة وضيعة، فلم تثنه وضاعتها عن تنفيذها فما كان ممن يحفلون كثيراً بالوسائل إنه يبغى الهدف سواء سار على الصراط أو تنكب الطريق"
يقول فقه القانون الجنائي الحديث أن التحريض على القتل "هو خلق فكرة الجريمة والتصميم عليها في ذهن كان في الأصل خالياً منها أو متردداً فيها بقصد ارتكابها"
فنشاط المحرض هو في حقيقته نشاط ذو طبيعة معنوية وليست مادية ذلك أنه يتجه بنشاطه إلى معنويات الفاعل أو إلى نفسيته ومن هنا فقد درجت بعض التشريعات على تسمية مساهمة المحرض بالمساهمة المعنوية .
ويقول الفقه عن نية القتل:
هو اتجاه نية مرتكب الجريمة إلى غرض يهدف إليه بنشاطه وهو ازهاق الروح معتبراً أن هذه الجريمة من جرائم القصد الخاص . فهو وكما وصفته محكمة النقض المصرية أمر خفى لا يُدرك بالحس الظاهر وإنما يُدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التى يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه"
ثم يقول الفقه أيضاً عن ظرف سبق الإصرار القصد أنه المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية يكون غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو شخص غير معين وجده أو صادفه سواء أكان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر أو موقوفًا على شرط"
والإصرار على القتل لغة هو انعقاد العزم على القتل والثابت بغير تحول ، وأياما كان الرأي في معناه القانوني فلا شك أن من يُقدم على القتلِ مصرًا عليه أشد خطرًا ممن يُقدم عليه بغير إصرارٍ تحت ضغط عاطفة فورية أو استفزاز عابر لأن من فكر ودبر ووازن أشد خطرًا ممن غضب فاندفع فقتل .
ويتجه الفقه فى مصر وكذلك أحكام محكمة النقض في التعريف بسبق الإصرار إلى التعريف بعنصريه:
أولًا: عنصر زمني وهو أن تمضي فترة من الوقت بين اتجاه الإرادة إلى القتل وبين تنفيذ القتل .
ثانيًا: عنصر نفسي وهو أنه يتوفر للجاني خلال الفترة الزمنية الممتدة بين التفكير في الجريمة وتنفيذها عنصر الهدوء والروية في التفكير وإعداد وسائلها وتدبر عواقبها .
ولقد استقر قضاء محكمة النقض على عدم كفاية العنصر الزمني للقول بقيام سبق الإصرار وقضت بأن سبق الإصرار - وهو ظرف مشدد فس جرائم القتل والجرح والضرب - يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيدًا عن ثورة الانفعال، مما يقتضي الهدوء والروية قبل ارتكابها، لا أن تكون وليدة الدفعة الأولى في نفس جاشت بالاضطراب وجمح بها الغضب حتى خرج عن طوره، وكلما طال الزمن بين الباعث عليها وبين وقوعها صح افتراض قيامه وهو يتحقق كذلك ولو كانت خطة التنفيذ معلقة على شرط أو ظرف، بل ولو كانت نية القتل لدى الجاني غير محددة، قصد بها شخصًا معينًا أو غير معين صادفه، وحتى لو أصاب بفعله شخصًا وجده غير الشخص الذى قصده وهو لا ينفي المصادفة أو الاحتمال، وسبق الإصرار بهذا المعنى ظرف مستقل عن نية القتل التى تلابس الفعل المادى المكون للجريمة.
وبهذا عبرت محكمة النقض عن استقرارها على ضرورة ثبوت العنصر النفسي لسبق الإصرار وهو الهدوء والروية باعتباره يمثل خصوصية سبق الإصرار أو ذاتيته أو بحد تعبيرها: "إن مناط سبق الإصرار هو أن يرتكب الجاني الجريمة وهو هادئ البال بعد إعمال فكر وروية"
وتقول أيضاً المحكمة العليا أن: "سبق الإصرار حالة ذهنية تقوم بنفس الجاني فلا يستطيع أحد أن يشهد به مباشرة وإنما هي تستفاد من وقائع خارجية يستخلصها القاضى منها استخلاصاً .."
وتتوفر علة التشديد فيما ينبني عنه هذا الامتداد الزمني من سماح للجانى بإعمال حكم العقل فيما انتواه وتدبر عواقبه فيما لو مضى فيه، وتتوفر له بذلك فرصة العدول عن قصده فيمضي مع ذلك فى تنفيذه.
فالهدوء والروية هما علة التشديد وما العنصر الزمني سوى ضابط على توافرهما أو بالأدق آمارة كاشفة عن عنصر الهدوء والروية .
قُتل إذن الحسن عمداً مع سبق الإصرار وباستخدام السم ولو كان الأمر حاضراً بيننا اليوم لقلنا:
إنه في العام الخمسين من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة / وقت حكم الأمويين .
- معاوية بن أبي سفيان بن حرب .
- جعدة بنت الأشعث بن قيس .
قتلا عمداً مع سبق الإصرار وباستخدام السم الحسن بن علي بن أبي طالب بأن أضمر الأول للمجني عليه الشر في قلبه على سندٍ من أنه يمثل العقبة الوحيدة أمام خلافة نجله يزيد ثم وسوس له شيطانه بأن يحرض الثانية -زوج المجني عليه - على أن تبث السم له في طعامه واعداً إياها بجعل بلغ مائة ألف درهم وكذا بالزواج من ابنه يزيد فوافقت وأقدمت على جريمتها بأن تناوبت بثت السم لزوجها في طعامه حتى وهن جسده ثم تمكن السم من كبده ففتك به وقد لقى ربه بناء على هذا التحريض وذاك الفعل .
لم يقدم معاوية بن أبي سفيان ولا جعدة بنت الأشعث بن قيس إلى محكمة الدنيا لكنهما حتماً سيمثلا أمام محكمة الآخرة حيث العدل المطلق .
تُرى ماذا يقول الحسن في قاتليه ..!