ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

وقف على المنبر يُشيح بيديه، ويرفعُ عقيرته ناصبا المرفوع، ورافعا المنصوبَ والمجرور، مُؤنثا أو مُخنثا ما حقه التذكير، مُفردا ما حقه الجمع والعكس، غارقا في بحور الشعر جهلا بقواعد اللغة العربية من صرف ونحو وعروض، فقال لجمهور المُستمعين : عجبا لفتيات اليوم، تقولُ الفتاة لأبيها كاذبة : "أنا ذاهبةٌ إلى الدرس، وهى ذاهبةٌ إلى الحبيب"، فيرد بعضٌ ممن جلسوا أمامه يغطون في النوم : صلى الله عليه وسلم.
هو مشهدٌ هزلي حقيقي، وليس مُصطنعا يكشفُ حال خطباء اليوم ممن فقدوا أسس ومُقومات الخطبة الناجحة، ويكشفُ أيضا حالَ جمهور المُستمعين، الذين جلسوا وآذانهم إحداها من طين، والأخرى من عجين، وجعلوا من خطبة الجمعة فترة نوم واستجمام، وتفكير في أحوال المال والعيال، والزوجة الناشز، ومدير العمل الثقيل وخلافه.
والمتأمل بعينٍ فاحصة، يجدُ أن وراء هذا المشهد الهزلي - الكاشف عن ضعف عددٍ لا يُستهان به من خطباء الأوقاف، وبالتالي انشغال المُستمعين عنهم - أمورا منها، تطويلُ الخطبة المُمل، وتكرار الجمل، والإسهاب في السرد الذي لا يعدو عن كونه (لت وعجن)، رغم أن هذا مُخالفٌ لسنة النبي، التي حرصت على قِصر الخطبة وتطويل الصلاة؛ لأنّ الكلام يُنسى بعضُه بعضا،  لهذا قيل: إن خير الكلام ما قلَّ ودل، وقليل يُدركه المرء خيرٌ من كثير يخرجُ المستمع ولا يجد في رأسه منه شيئا .
ومن عيوب الخطبة أيضا أنّ بعضا، أو قُل كثيرا من خطباء اليوم، نسى أنه قدوة يقتدي بها الناس، فيفعل غير ما يقول، وينتهك من المحرمات ما تستحي منه العوام، ناسيا أنه بكونه خطيبا يقوم مقام الرسول، ويتكلم بلسان الشرع، فلابد أن يكون قدوة يوافق قولُه عمله؛ لكيلا يصدق عليه قول الحق: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) .
ومن عيوب الخطبة كذلك أنّ بعض الخطباء يكون في وادٍ وقواعد اللغة في واد آخر، فتأتي عباراته ركيكة ضعيفة فاقدة لمعناها، بعدما ألبسها ثوب الضعف والهوان، وطعن نحوها ووأد صرفها، وهتك عرض بلاغتها.
ومن عيوب الخطبة - هداكم الله - أنّ بعضا من الخطباء يدخلون في الموضوع جملة واحدة دون وضوح العناصر وتسلسل الأفكار، فيتوه معه المستمع، ويخرج من الخطبة خالي الوفاض.
ومن عيوب خطبة اليوم .. عدم مُراعاة الكلام لمقتضى الحال، فالنابه من الخطباء من يعلم أنّ لكل حدثٍ حديثا، ومُعايشة أحداث العصر من أهم أسباب نجاح الخطبة، وقبول ما يقوله الخطيب .
فحكمةُ الخطيب ألا يضع نفسه في برج عاجي، ويغض الطرف عن مشكلات المجتمع وأحداث العصر .
وأشدُّ ما يعيب بعضا من خطباء اليوم اللحنُ في القرآن، وسوء الحفظ، والخلط بين المتشابهات، وغيرها من عيوب القراءة التي تُعتبر وصمة في جبين من يقترفها من ذوى العمائم، الذين من المُفترض أنهم أفنوا زهرة عمرهم في حفظ القرآن وتدبر آياته .
فحرىٌ بخطيب اليوم أن يُشمر عن ساعد الجد، ويستمسك بمقومات الخطبة الناجحة التي لابد لصاحبها من علمٍ وفقه ودراية بالقرآن وعلومه، وتوصيل ذلك للمستمع بتوءدة، وأناة بعيدا عن الصوت الزاعق واللغة الركيكة، والحركات البهلوانية، التي تتنافى مع جلال المقام والمُتحدِّث .
[email protected]

تم نسخ الرابط