الباحثة أرميدا فان ريج: ترامب وحلفاؤه الأوروبيون يهددون المشروع الأوروبي
في أعقاب فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ثارت تكهنات وتوقعات واسعة حول السياسات الأمريكية، الداخلية والخارجية، خلال حقبة ترامب الثانية، وعلاقة بلاده بالعديد من الدول والمناطق في أنحاء العالم، وبينها بالطبع، حلفاء الولايات المتحدة المتنامين في أوروبا.
وترى الباحثة أرميدا فان ريج في تقرير نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس)، أنه مع عودة ترامب للبيت الأبيض مجددا، ستواجه أوروبا تحديا رئيسيا يتمثل في صعود "اللا ليبرالية" عبر الأطلسي، وما يمثله ذلك من تقويض للوحدة الأوروبية.
واتبع قادة أوروبا صيغة متشابهة في تهنئة الرئيس المنتخب، حيث أعربوا عن تهانيهم، مشيرين إلى علاقات العمل الطيبة السابقة مع الولايات المتحدة، وأكدوا ضرورة استمرار هذه العلاقات لصالح مواطني الجانبين.وجاءت هذه الصيغة كإشارة كاشفة عن المقايضة السياسية التي يتوقعها معظم رؤساء دول أوروبا مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وبالطبع، كان الاستثناء حلفاء ترامب في أوروبا، والذين، ببساطة، انتشوا لفوزه.
اللا ليبرالية عبر الأطلسيوتقول أرميدا فان ريج، الزميلة الباحثة في برنامج أوروبا بمعهد تشاتام هاوس إن التطور الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لأوروبا ربما يتمثل في تزايد عدد حلفاء ترامب الأوروبيين، وتنامي النزعة اللا ليبرالية، والشعبوية. وفي عام 2016، كان بعض نظراء ترامب في أوروبا هم أنجيلا ميركل في ألمانيا، وإيمانويل ماكرون في فرنسا، ومارك روته في هولندا، وجوزيبي كونتي في إيطاليا. ورغم سجل كل واحد من هؤلاء، فقد كانوا جميعا معتدلين.
وتبدو الصورة مختلفة تماما اليوم، حيث إن الأحزاب المتطرفة المناهضة للحرب: "البديل من أجل ألمانيا"، و"تحالف سارا فاجنكنشت"، تحقق صعودا في ألمانيا. وفي فرنسا، تمكنت مارين لوبان، المؤيدة لروسيا، من خفض الدعم لأوكرانيا من ثلاثة مليارات يورو إلى مليارين في مشروع الموازنة الفرنسية.
وفي هولندا، يعد "حزب الحرية" اليميني المتطرف، هو الشريك الأكبر في الائتلاف الحكومي. وفي إيطاليا، تنتمي رئيسة الوزراء جورجا ميلوني لحزب فاشي جديد. ويتم استنساخ قواعد اللعبة الشعبوية واللا ليبرالية لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في أنحاء القارة.
وفي بولندا، يواجه رئيس الوزراء المعتدل دونالد تاسك صعوبات في قلب الضرر الذي أحدثته الحكومة الشعبوية السابقة.
ويمثل الشك العميق في الاتحاد الأوروبي والرغبة في تقويضه من الداخل القاسم المشترك بين الزعماء الشعبويين في أوروبا، بحسب تقرير تشاتام هاوس. ويرحب الكثير من هؤلاء الزعماء بعودة ترامبولم يكن من قبيل المصادفة أن يقرر أوربان عقد قمة "الجماعة السياسية الأوروبية"، التي استضافتها بلاده، بعد يومين فقط من الانتخابات الأمريكية. وجاء فوز ترامب بمثابة مكافأة إضافية، فقد حضر رؤساء الدول الأوروبية إلى بودابست للمشاركة في القمة وهم يعانون من نتيجة الانتخابات، أو مبتهجين بها.
ويريد أوربان تقديم نفسه وكأنه رجل ترامب في أوروبا، وقد أمضى السنوات الأربع الماضية في بناء علاقات مع الرئيس المنتخب وجناح "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، داخل الحزب الجمهوري.وفي الوقت نفسه، عملت رئيسة وزراء إيطاليا، حتى الآن، مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وليس ضد أي منهما: فقد دعمت قرارات الاتحاد الأوروبي والناتو بشأن أوكرانيا وأظهرت معارضتها لروسيا. ولكن ربما كانت تلك حسابات استراتيجية: ولعل ميلوني نظرت إلى ميزانية بلادها لتدرك أنها بحاجة إلى أموال التعافي من كوفيد-19 التي تقدمها المفوضية الأوروبية.
وبالنظر إلى تاريخ ميلوني المتشكك في أوروبا وإلى آرائها المؤيدة لروسيا، فإن العلاقات اللا الليبرالية عبر الأطلسي تعني أنها قد تشعر الآن بالجرأة لمراجعة مواقفها، وقد بدأت بالفعل استخدام قواعد اللعبة اللا الليبرالية على الصعيد المحلي.
التداعيات السياسية لولاية ترامب الثانية على أوروبا ورغم بعض أوجه الشبه الأيديولوجي، لن تروق سياسات ترامب لحلفائه في أوروبا، حيث هدد بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% و20 % على جميع واردات بلاده من الاتحاد الأوروبي.كما أن زيادة الرسوم الجمركية على البضائع الواردة من الصين- وقد هدد ترامب بفرض رسوم تصل إلى 60% - سوف يكون لها تداعيات على الاقتصادات الأوروبية.
ولا تعد هذه التطورات إيجابية للدول الأوروبية التي تعتمد على التصدير. ففي فرنسا، رابع أكبر مُصدر بالاتحاد الأوروبي لأمريكا، كان رد فعل مارين لوبان – التي أيدت ترامب بقوة في السابق- فاترا على نحو ملحوظ عقب فوزه بسبب مخاوف نشوب حرب تجارية.وحتى زعماء أوروبا، الذين ربما كان لديهم أمل في نتيجة مختلفة للانتخابات، ربما يسعون إلى التحوط من رهاناتهم، فهناك أمران واضحان تماما عن ترامب وهما: لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو رجل صفقات.
ومن المحتمل بقوة أن تسعى دول أوروبية، خاصة دول المواجهة التي لديها مخاوف حقيقية من طموحات روسيا الاستعمارية، إلى شراء دعم ترامب من خلال صفقات أسلحة ثنائية – وذلك رغم نفور هذه الدول من موقف ترامب تجاه روسيا.
وتقول أرميدا فان ريج إن اندفاع هذه الدول صوب عقد صفقات ثنائية مع الولايات المتحدة ينطوي على خطر نشوب سباق غير منسق على صفقات الأسلحة الأمريكية، وهو ما جرى خلال ولاية ترامب الأولى. ومن شأن ذلك تقويض جهود التعاون الصناعي الدفاعي في أوروبا، في وقت تشتد فيه الحاجة إليه.
وقد يكون الجانب المضئ هو أن ذلك قد يحفز المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بما يكفي لاتخاذ إجراءات بشأن التعاون الأمني والدفاعي بين لندن وبروكسل، والذي يعد التعاون الصناعي الدفاعي أهم جزء منه.
أوروبا مفككةوتعتقد أرميدا فان ريج أن الارتباط عبر الأطلسي بين القادة الشعبويين واللا ليبراليين يجب أن يشكل مصدر قلق، فترامب لم يعد معزولا في أوروبا، حيث جمع حلفاءه سريعا من رؤساء الدول الأوروبية، الذين يتفقون على التهديد الوجودي الذي يمكن أن تشكله الهجرة غير الشرعية، وأيضا الحاجة إلى ما يسمى بـ "القيم العائلية التقليدية" و”معاداة الاستيقاظ“.
ولكن ما هو أكثر من ذلك، هو أنهم يشاركون معا رؤية غير ليبرالية للعالم، ويريدون تطويرها، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات تمتد من الأمن والتجارة العالمية إلى حقوق الإنسان - وتهديد المشروع الأوروبي بشكل مباشر.
المحتوىوربما يكون هذا التطور مدمرا في أوقات اليسر، ولكنه يصبح خطرا جسيما في الوقت الذي تواجه فيه أوروبا تحديات متعددة الأبعاد تتطلب استجابة استراتيجية ومتماسكة وموحدة. والأمل معقود على أن يوحد الأوروبيون صفوفهم. ولكن تحقيق الوحدة أمر عضال في أفضل الأوقات، وشبه مستحيل عندما يشعر القادة الشعبويون بأنهم "يحققون الفوز"، كما أنهم يدادون جرأة بفضل النجاحات الانتخابية التي يحققونها.
وكما حدث خلال فترة ولاية ترامب الأولى، من المرجح أن يسعى الأوروبيون إلى التشويش فحسب بأفضل مدى يمكنهم. ولكن يتعين على زعماء أوروبا الذين مازالوا يؤمنون بالديمقراطيات الليبرالية المفتوحة، الشروع في تقديم آراء مضادة أكثر إقناعا - وعلى وجه السرعة. وليست هناك حلول سريعة.
والبداية ستكون نقل المخاطر التي تشكلها روسيا وغيرها من الخصوم على نحو أكثر وضوحا.كما يتعين على الأحزاب الرئيسية تفنيد حجج الأحزاب الشعبوية من خلال الاعتراف بالمخاوف الحقيقية - التي ألهبها الخطاب الشعبوي والتضليل - والتي تساور الناس بشأن قضايا مثل الهجرة غير الشرعية والتحول الأخضر. وعوضا عن الاقتراب من سياسات الشعبويين الأكثر تطرفا من أي وقت مضى لكسب الأصوات، يجب أن تتطلع الأحزاب إلى سياسات عادلة ومنصفة كجزء من الحل.
وفي ختام التقرير، تخلص أرميدا فان ريج إلى أن الأمر لن يكون يسيرا بأي حال من الأحوال، لكن المشروع الأوروبي - الذي جلب السلام لأوروبا – قد أصبح على المحك.