يوماً ما التقى الحضور بالغياب فقال الحضور:
أنت أيها الغياب مبعث كل حزن ليتك تصير عدماً طالما أنت هكذا مؤلم لبنى البشر .
أنا لا أعلم في الحقيقة ما هو الجدوى من بقائك .. !
قال الغياب:
وأنت أيها الحضور ماذا عنك؟
رد الحضور زاهياً: يكفيني أنني الحضور .
مصدر التلاقي بين الناس وسبب حديثهم ومصدر بهجتهم وحين يأْتنُسون فلا ألم لفراق ولا حزن لغياب .
قال الغياب وقد بدت عليه ملامح الأسى:
أنظر أيها الحضور إن الأمر لا يُقاس أبداً بالتقارب الجسدي ولا بالإلتقاء الحسي ، ولا حتى بتجاذب أطراف الحديث . إن منطق الحضور والغياب ليس هكذا الذى تقوله .
يمكنك أن تراني في الشوق الذى يَفيض بصاحبه ، ويمكنك أن تراني فى قلب المحب حيث كان كل شىء حوله حاضراً فلم يراه ورآنى أنا...شعر بي أناً .
يمكنك أن تراني فى تلك الوحدة التي كثيراً ما تتحدى صخب الحياة وتنتصر عليه .
يمكنك أن تراني في تلك العزلة التي يتلاشى أمامها زخم الحياة بكل مباهجه واغراءات النسيان .
يمكنك أن تراني فى عين عاشق استبد به الاشتياق ولم يغنه شىء من حضور بل تشبث بالغياب .
يمكنك أن تراني فى قلب يرتجف كُلما حلَّت به ذكرى غاب صاحبها .
يمكنك أن ترانى في عبير الأماكن التى رحل عنها رواده .
يمكنك أن تراني فى هذا العَبَق الذى ما غادر الأشياء عندما مسته آياد في رفق يوماً .
يمكنك أن تراني فى تلك العبرات التى تعجز المقلات عن أن تحتبسها فتنهمر دموعاً كالسيل .
هذا هو حضوري فى الإنسان .. !
إن حضوري كما ترى في رجفة قلب ومقلة عين وبسمة حزن وروح تهفو وشوق مُتقد وجفون لا تغفو .. !
هل رأيت حضوراً أكثر من حضور الغياب؟!
المأساة ليست عندى أيها الحضور ، بل عندك أنت عندما لا يشعر الناس بك وقت أن تكون بينهم ، بينما يستدعوننى .
أنا الذى حَسِبْتُ أننى نسياً منسياً فإذا بي أكثر الأشياء حضوراً عند الصادقين .
كان الحضور يُنصت ثم أخذ بعد ذلك يَخْفُت كبصيص ضوءٍ يحتجب خلف السُحب حتى تلاشى تماماً ولم يعد له أثراً ..!