الجمعة 05 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

▪︎ السيرة أطول من العمر، والحياة موقف يبقى محفورًا للإنسان حتى وإن رحل بالجسد، والموت هو قضاء الله ومصير كل حى.
دارت فى ذهنى خواطر كثيرة وقد علمت منذ قليل بوفاة واحد من أخلص وأعز وأنقى الناس الذين عرفتهم فى حياتى، وهو الأستاذ الكبير حربى بيرم نائب رئيس تحرير "الجمهورية"، ومدير مكتب "الجمهورية" بمحافظة الجيزة الذى لقى ربه مساء الخميس 14 سبتمبر 2023 عن عمر 66 عامًا بعد حياة حافلة بالعمل والعطاء والمواقف الإنسانية التى يستحيل نسيانها.
▪︎ عرفت الراحل الكريم منذ سنوات طوال، ورغم تباعد طبيعة عملنا بالجريدة، إلا أننا كنا نحرص على التواصل فى المناسبات والأعياد لتبادل التهانى، وكثيرا ما كنت ألجأ إليه طالبًا مساعدته فى حل مشكلة إذا كان الأمر يقع داخل نطاق محافظة الجيزة.
- كثيرة هى المواقف التى جمعتنى بالراحل الكريم .. ولا أنسى موقفه الكريم المساند لى حين حدثت مشادة عنيفة بينى وبين محافظ الجيزة الحالى أحمد راشد بسبب قيامه بإزالة كشك لشاب يتيم ومريض، كان قد استغاث برئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل عبر صفحات جريدة "الجمهورية"، فأصدر رئيس الوزراء الراحل تعليماته لمحافظة الجيزة بإقامة كشك وتوفير شقة لهذا الشاب.
▪︎ ظل قرار رئيس الوزراء يراوح مكانه بين مكاتب المحافظ والسكرتير العام والسكرتير العام المساعد ورئيس حى الدقى دون تنفيذ. حتى التقيت بأحد رؤساء حى الدقى وتم الاتفاق على المكان، واقترض الشاب مبلغا من المال، وقام بشراء الكشك وتوصيل الكهرباء وشراء البضاعة والثلاجة وغير ذلك من المستلزمات، وشعر أن الحياة بدأت تبتسم، وترد له شيئا من انسانيته المهدرة.
- كان اختيار موقع الكشك تتويجا لجولات من المفاوضات مع 4 رؤساء تناوبوا على حى الدقى، وكنا كلما اقترحنا مكانًا، يكون الرد أنه لا يصلح، ثم نفاجأ بعدها بأيام بوجود كشك فى هذا المكان. حتى قلت يوما لرئيس الحى وكان عميد شرطة سابق وواضح أنه ابن ناس: الموضوع ده من أوله لأخره لا يعنينى فى شئ، ولكن المهم أن يكون التعامل مع الناس بمسطرة واحدة.
تفهم الرجل كلامى جيدا، ووضع يده على ما تشهده عمليات تخصيص الأكشاك من تلاعب شديد، واتفقنا على الموقع المقترح، وأقام الشاب مشروعه الصغير، وانقطعت أخباره.
▪︎ شعرت براحة نفسية أننى استطعت مساعدة إنسان أن يبدأ حياته، وقلت الحمد لله أنه لم يتصل كل هذه المدة، والمثل الانجليزى يقول: No News is good News، وكنت سعيدا بذلك.
- غير أنى فوجئت بهذا الشاب يتصل بى مساء أحد الأيام منفجرا فى البكاء، يبلغنى بأن بلدوزرات المحافظ أطاحت بمشروعه وأحلامه فى الاستقرار، وأخذ يحدثنى عن الديون التى ستلاحقه.
كنت وقتها فى زيارة خاصة لأحد الأماكن البعيدة بمركز أخميم بمحافظة سوهاج، وفى منطقة شبكة التليفون بها ضعيفة جدا، مما يستلزم الوقوف وسط الشارع حتى أستطيع التقاط المكالمة.
▪︎ انتهت مكالمة الشاب الباكى .. ولم أكن أتصور أن المحافظ بنفسه وشخصيا هو الذى يأخذ الموضوع على أعصابه بهذا الشكل الغريب.
- اتصلت بالمحافظ .. ففوجئت به يبلغنى بأنه يعرف هذا الشاب جيدا، مؤكدًا أنه هو من أمر بإزالة الكشك.
- وكان من الطبيعى أن أقول له: إن هذا المكان لا يعوق حركة المرور، وأنه تم اختياره بمعرفة رئيس حى الدقى وبعد التشاور مع مسئولى الاشغالات. وأن هناك رخصة وموافقة مكتوبة بذلك. 
- رد المحافظ بتحدى لا يحتمله الموقف: أنا اللى أمرت بشيله
- قلت: لماذا يا سيادة المحافظ .. وهناك تراخيص وموافقة ؟ 
- قال بسخرية: لما ابقى أطور الشارع .. هابقى اشوف
- قلت: ياريت يكون التعامل مع الناس كلها بنفس المعيار، لأن هذا هو الكشك الوحيد الذى تمت ازالته، وهناك عشرات الأكشاك التى تملأ حى الدقى ولا تفصل بينها سوى أمتار معدودات.
انتهت المكالمة بطريقة غاضبة، واعتبر المحافظ أن حديثى معه بهذه الطريقة يعد تحديا له.


▪︎ وبعد دقائق .. وقبل أن أغادر المكان الذى أقف به وسط الشارع، تلقيت اتصالا من الزميل حربى بيرم، يبلغنى فيه بأن المحافظ اتصل به يشكونى، ويسأله عنى، ويطلب تقديم شكوى ضدى. 
- فقال له الزميل حربى: عندك يا سيادة المحافظ .. لو سمحت حضرتك لا تعرف الشخص الذى تتكلم عنه .. ( وقال الاستاذ حربى كلاما كثيرًا فى حقى من نوعية أننى إنسان خدوم وأقف مع كل الناس، ثم حدثه عن عملى بجريدة الجمهورية) واختتم حديثه قائلا للمحافظ: أنا ساتحدث مع سامح محروس .. والمؤكد أنك فهمته غلط.
- قلت له: فليفعل المحافظ ما يريد .. وليشكونى حيث يشاء .. ورغم أن الموضوع لا يعنينى من قريب أو من بعيد، خاصة أن هذا الشاب التقيته صدفة فى مكتب صديق يقدم الشاى والقهوة فى مكتبه، إلا أننى ساعتبرها قضيتى من الآن، وليستعد المحافظ للرد على ما سأقدمه ضده من شكاوى موثقة بالصور تكشف الفساد والمحسوبية فى توزيع الأكشاك بالجيزة.
.........................
▪︎ كنت فى غاية الاستياء بعد المكالمة السخيفة مع المحافظ، وأخذ الزميل حربى بيرم يهدئ من انفعالى، وهذا موقف واحد من مواقف كثيرة تعاملت فيها مع الزميل الكريم.
لقد فقدنا زميلا عزيزا غاليا .. يقدر الزمالة حق قدرها .. وهذا عملة نادرة فى هذا الزمن، وفى مهنة تلوثت بفعل تدخلات كثيرة وصراعات سافرة.
وأكاد أتخيل أن مثل هذا الموقف لو حدث مع زميل آخر لما تردد فى أن ينفخ فى النار ويستغلها فرصة لينال منى، متوهما بخياله المريض أنه يستطيع ازاحتى .. وهو يدرك جيدا أننى ليست لى مصلحة شخصية فيما أتحمله وأعانيه لمساعدة الناس، بل وربما استفاد هذا الشخص من خدماتى يومًا .. 
ولكن ما أكثر الأشكال المشوهة وأطفال الأنابيب الذين لوثوا الحياة الصحفية، دون أدنى وازع من قيم أو ضمير.
رحم الله الاستاذ الكبير حربى بيرم .. وأسكنه فسيح جناته. 
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سامح محروس

تم نسخ الرابط