في الوقت الذي عاش فيه العالم العربي نشوة الفرحة، ويحذوه الأمل في أن أتون الحرب في الشرق الأوسط قد وضعت أوزارها مع ذلك الإصرار الكبير من قبل الرئيس الأمريكي ترامب، بعد نجاحه في وقف الحرب في غزة بعد 15 شهراً من الفشل الذريع لإدارة بايدن في ذلك، إلا أنه وبحسب قواعد التعامل مع ترامب، رجل الكاو بوي الأمريكي، لم تدم الفرحة طويلاً، ليخرج علينا بمفاجأة من العيار الثقيل، وخارج إطار العقل والمنطق، ليعلن عن دعوته لكل من مصر والأردن، بالقبول بالتهجير لفلسطيني غزة، لبلديهما، وذلك ليس تصريحاً في الهواء، وإنما في محادثة تمت بالفعل مع ملك الأردن، ومكالمة مرتقبة مع الرئيس السيسي.
دعوة ترامب الفاقدة للمنطق قوبلت ببيان مصري شامل وجامع جدد التأكيد على ثوابت مصر تجاه القضية الفلسطينية إجمالاً، وفي القلب منها ارفض الكامل للتهجير للفلسطينيين بغزة لا على حساب مصر ولا غير مصر، ولا بشكل مؤقت، ولا طويل الأجل، وأن كل الدماء التي أريقت لها حق في الرقاب فلا تفريط في الأرض، ولا في الحق، وأن الأولى للباحثين عن الحل للأزمة في الشرق الأوسط البحث عن حل جذري للصراع برمته، قائم على أساس حل الدولتين، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وأنه لا تفريط في الحق ولا تنازل عنه، وأن مصر رفضت كافة الإغراءات التي وصلت لمئات المليارات من الدولارات، التي تكفي سداد ديونها وإحداث نقلة اقتصادية عملاقة، كما أنها ترفض كذلك التهديد عبر نشر كامل تشكيلات القوات المسلحة المصرية على كل شبر من أرض سيناء، وأنها جاهزة لأي مواجهة مهما كلفها ذلك، والرسالة واضحة للداخل والخارج، وهو الأمر الذي اتفق معه كذلك الأردن وعبر عنه جلالة الملك عبدالله في حديثه مع ترامب، وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي.
الجميل في الأمر أن ترامب الذي يتباهى بأنه أوقف الحرب في غزة، يمارس لعبة شديدة القذارة فمن وقف كامل المعونات العسكرية الأمريكية لدول العالم باستثناء مصر إلى جانب إسرائيل، قفذاً على قرار سلفه بايدن باقتطاع 95 مليون دولار من معونة مصر العسكرية لصالح الجيش اللبناني، إلى الإيعاذ للكونجرس الأمريكي لمناقشة ما أسموه الانتهاكات المصرية لاتفاقية السلام مع إسرائيل عبر الانتشار العسكري الواسع في سيناء، متجاهلين الانتهاكات الاسرائيلية المقابلة في احتلال محور فلاديلفيا المفترض أنه منطقة عازلة، ولذلك كان الإصرار المصري ان تتضمن اتفاقية هدنة غزة الانسحاب من ذلك المحور خلال 60 يوماً من بدء سريات الاتفاق، بالمقابل وافق ترامب الذي ادعى أنه رجل السلام الذي أوقف الحرب في غزة، على الافراج عن معونات عسكرية ضخمة لإسرائيل كان قد أوقفها بايدن، وهي تتضمن 1800 قنبلة للكيان الصهيوني تزن كل منها 2000 رطل، وهي قنابل شديدة التدمير، تلك الموافقة تحمل في طياتها تهديداً بالعودة لجحيم الحرب من جديد في غزة.
الغريب في الأمر أن ترامب ذلك الرئيس الذي يقود أكبر عملية تهجير عكسي لكل المخالفين للنظم في بلاده، هو نفسه يسعى لتنفيذ تهجير لأصحاب الأرض في غزة، متجاهلاً أن أهل غزة اللذين رفضوا هجرة بلادهم تحت وطأة أشد حروب التطهير العرقي في العصر الحديث قسوة وعنفاً وانتهاكا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، لم ولن ينساقوا لرغباته لا الترغيب ولا الترهيب، لأنه وببساطة ماذا يمكن أن يفعل بهم أكثر مما تم على الأرض.
الرائع هذه المرة أن ردود الفعل الشعبية في مصر والأردن وغزة فضلاً عن رد النخب السياسية والثقافية والنقابات وحتى التفاعلات مع القضية على مواقع التواصل كلها تمضي في سياق ونسق رائع يعكس حالة الوعي الشديد بخطورة ما يحدث وحكمة الدولة المصرية، وكذلك المملكة الأردنية في التعامل مع كل ما يحدث من مهاترات.
بالمقابل نحن مطمئنون تماماً لقدرة مصر على التصدي لتلك المناورة الغريبة التي يقودها ترامب، فمصر التي أفشلت كافة سيناريوهات "صفقة القرن" قادرة على أن تتصدي وبالقوة إذا اضطرت لذلك لأي محاولة لفرض حلول غير منطقية ولا تحقق صالح الأوطان والشعوب العربية وأمنها القومي، ويبقى أن يدرك كل عاقل أن كل ما جرى من أمور خارقة للمنطق والعقل والاجتهاد في المنطقة تسببت فيه القضية الفلسطينية التي عادت لواجهة الأحداث من جديد بما يقول أنه لم يعد من الممكن تخطيها في أي حسابات أخرى بالمنطقة.
وتبقى للقضية سيناريوهات عديدة للتعامل معها حال اجتماع الإرادة العربية مشتركة مجتمعة للعب مع ترامب بكل الأوراق المتاحة وهي كثيرة حال صدقت النوايا وتوحدت الوجهة وأدرك الجميع أنه لم يعد قادراً على اللعب بمفرده لمواجهة سيناريوهات تستهدف الجميع.