الصندوق الأحمر.. كاتم الأسرار وكاشف الأخبار
"الأخ" الاسترالي ينهي اسطورة "الفاعل مجهول"
مع كل كارثة طيران.. تتجه الأنظار إلى الصندوق الأسود.. فهو كاتم الأسرار وكاشف الأخبار.. يملك مفاتيح اللغز ويحمل من التفاصيل ما يحدد الأسباب وينهي إلى الأبد عبارة "الفاعل مجهول".
قبل سنوات قليلة.. ربما في خمسينات القرن الماضي.. كانت معظم حوادث الطائرات تقيد ضد مجهول.. فلا أحد يستطيع أن يحدد سبب الكارثة: هل عطل فني أم خطأ بشري أم عمل ارهابي أم صاعقة من السماء أو مطب هواء.. كان ذلك قبل ظهور "الأخ الأكبر" على يد مخترع استرالي تعرض للتجاهل في بلاده.. وسطر مع جهازه الغريب واحدة من أغرب حواديت الطيران على امتداد الزمان.
الصندوق الأسود.. هذا اسمه وليس شكله.. فلونه لا علاقة له بالسواد.. وشكله لا يوحي بالاسم القاتم.. لا نتذكره إلا في الكوارث المفجعة.. ربما كان هذا هو السبب في التسمية.. ومع ذلك يبقى الصندوق الأسود الأكثر غرابة بشكله وتكوينه ومواصفاته ومهامه.. والصندوق الأكثر أهمية ايضا.. فما هي حكايته؟.
يعتقد الكثيرون أن لون الصندوق أسود.. وهذا خطأ.. فلونه برتثقالي أو أحمر أو أصفر.. لتمييزه بسهولة وسط حطام الطائرة..ولا يزال سبب هذه التسمية غامضا.. فقد ذهب البعض الى أن ذلك يرجع إلى ارتباطه بالكوارث الجوية وهناك رأي أخر يرجع التسمية إلى أن مسجلات المعلومات الأولى كانت سوداء من الداخل لمنع التسربات الضوئية من تدمير شريط التسجيل.
في العام 1953 ظهرت الحاجة إلى جهاز يستطيع تحمل الانفجارات وتحطم الطائرات والنيران وتحمل البقاء في المياءة والسقوط من ارتفاع كليومترات.. ويتضمن تسجيلا دقيقا لكل ما يحدث على الطائرة.. ففي هذا العام كانت صناعة الطيران المدني برمتها مهددة تماما بعد سلسة من حوادث سقوط الطائرات لشركة طيران كبرى تدعى "كوميت".
في العام 1954 اقترح عالم طيران استرالي.. يدعى ديفيد وارن.. صنع جهاز لتسجيل تفاصيل رحلات الطيران.. وكان الجهاز الأول في حجم اليد.. ويستطيع تسجيل حوالي 4 ساعات من الأحاديث التي تجري داخل مقصورة القيادة.. وتفاصيل أداء أجهزة الطائرة.. وأصيب وارن بالدهشة عندما رفضت سلطات الطيران الاسترالية جهازه وقالت إنه عديم الفائدة.. وسخر الطيارون من الجهاز الذي أطلقوا عليه اسم الأخ الكبير الذي يتجسس على أحاديثهم.
نقل الدكتور وارن ابتكاره إلى بريطانيا التي رحبت به.. وبعد أن بثت إذاعة بي بي سي تقريرا حوله.. تقدمت الشركات بعروضها لتطويره وصناعته لتبدا مرحلة جديدة في السيطرة والتعامل مع حوادث الطيران.. فبفضل معلومات الصندوق الأسود تم التعرف على الكثيرمن المشاكل الفنية للطائرات ومعالجتها.. ليصبح الطيران من أكثر وسائل الانتقال أمانا.
يوجد في كل طائرة صندوقان يقعان في المؤخرة.. الاول وظيفته حفظ البيانات الرقمية والقيم الفيزيائية مثل الوقت والسرعة والارتفاعات والاتجاه.. والثاني وظيفته تسجيل جميع المحادثات داخل قمرة القيادة سواء كانت بين طاقم الطائرة وأبراج المراقبة.. أو بين أفراد الطاقم.
وتحفظ هذه الأجهزة في قوالب متينة للغاية مصنوعة من مواد قوية مثل التيتانيوم.. تحيطها مادة عازلة.. لتتحمل صدمات تبلغ قوتها اضعاف قوة الجاذبية الارضية وحرارة تفوق الف درجة مئوية وضغطا قويا يعادل ضغط المياه على عمق عشرين الف متر.. وتلف قطع التسجيل بمادة عازلة تحميها من مسح المعلومات المسجلة عليها وكذلك من العطب والتآكل من جراء مياه البحر لمدة ثلاثين يوما.
والصندوق الاسود يستطيع تسجيل من عشرين الى 120 ساعة.. وتوجد به 4 قنوات تسجيل..ويستطيع تحمل حرارة تصل الى 1100 درجة مئوية لمدة ساعة كاملة.. وهي درجة حرارة احتراق وقود الطائرات.. كما يستطيع مقاومة ضغط الماء حتى 5 الاف متر.. ويعمل الجهاز بست بطاريات قادرة على تشغيل وحدات التسجيل 6 سنوات.
ومن الحقائق الطريفة أن والد ديفيد وارن مخترع الصندوق الأسود كان قد مات في حادث تحطم طائرة.. وتشاء الأقدار أن يتولى ابنه اختراع الجهاز الأكثر أهمية في التعامل مع حوادث الطائرات بعد وفاته بسنوات.
أخيرا الصندوق الأسود.. يزود بوحدة بث موجات صوتية تساعد على اكتشاف مكانه في حال سقوط الطائرة في الماء حيث تستطيع أجهزة البحث المتطورة التقاط الاشارات الصادة عن الصندوق من عمق 3 الاف متر تحت الماء ولمدة شهر كامل قبل ان تتوقف الاشارات بسبب نفاد الطاقة.