ads
الجمعة 22 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

تتناول هذه الأكتوبة -تناولاً جزئيًا بطبيعة الحال- جانبًا من جوانب النزاع الدائر بين الكيان الصهيوني المسمى "إسرائيل" والعرب؛ لا سيما أهل فلسطين. وهذا الجانب نادرًا ما يحظى بالتنظير والتقعيد اللازمين وصولاً إلى اعتباره جهدًا منظمًا مأمولاً، وذلك على الرغم من أنه الجانب الأرجى وصولاً إلى الجمهور؛ ذلك بأن محتوى الأخبار والوسائط الإعلامية على اختلافها هي الأقدر على اجتياز الحدود ونطاقات البث ومحيط النزاع الفعلي. ذلكم الجانب المقصود هو الجانب اللغوي، أي الخطاب الإعلامي في زمن الحرب، وكذلك في حال السلم.

ظهرت "حروب اللغة" في عالمنا منذ أمد طويل؛ ومن أحد تجلياتها ما سُمي "حرب اللغات" (أو "ملحمة هسافوت" بالعبرية) في عام ١٩١٣، وهي عبارة عن جدل حمى وطيسه في فلسطين إبان تسلّط الإدارة العثمانية عليها، أما موضوع الجدل فقد كان لغة التعليم في المدارس اليهودية المستحدثة فيها (أي قبل قيام إسرائيل بعقود في ١٩٨٤)، وما اقترنت به تلك المساعي من حدث جلل تمثل في إحياء موات اللغة العبرية. ففي عام ١٩١٣، كانت وكالة المساعدات الألمانية اليهودية (Hilfsverein der deutschen Juden) تدير مدارس للمهاجرين اليهود في فلسطين منذ عام ١٩٠٥. وسعت الوكالة يومئذ إلى استخدام الألمانية بوصفها لغة التدريس والتعليم في مدرستها الثانوية الفنية الأولى في حيفا (أي مدرسة "تخنيكم" (Technikum))؛ فتسبب ذلك في فورة وتنازع بين مناصري استخدام الألمانية والحالمين بإحياء العبرية بوصفها اللغة التي ينبغي للشعب اليهودي النطق بها في ما يراه "أرض الوطن"!

ليس سلاح اللغة بأدنى مما سواه تنكيلاً وإثخانًامتى وُظِف لتلك الغاية؛ وهذا هو عين ما دعا أحد أشهر علماء ألسنية القانون على مستوى العالم، بيتر تيرزما، إلى إصدار كتاب كامل ضمّنه مباحث أكاديمية شتى بعنوان "جرائم اللغة" (Language Crimes) منذ إصداره الأول في ١٩٩٣. تناول الكتاب (إساءة) استغلال ما يعرفه أهل الألسنية باسم "الأفعال الكلامية" في مواقف تنطوي على الإغواء أو التآمر أو التشهير أو الحنث باليمين أو التهديد أو عرض الرشوة وما إلى ذلك من جرائم منبتها لغوي. غير أن هذا النموذج الأكاديمي يقتضي تطويرًا بما يناسب دواعي المواجهة بين الكيان الصهيوني والعرب، وإن شئت فقل "العرب المخلصين للقضية" وكل حر صاحب ضمير في عالم اليوم.

ثمة "شقاق" لغوي لا تخطئه العين بين الاستخدامات اللغوية بين طرفي النزاع منذ بداياته؛ فما المطلوب إلا قائمة لسرد شواهد لفظية وعبارية على فجوات يتعذر رأبها بين الاختيارات اللغوية لطرفي النزاع بكل ما لها من دوافع سياسية ودينية وفكرية وتاريخية. وللقارئ الكريم أن يستدعي ما شاء من بواعث تفسيرية للأمثلة الآتي بيانها إثباتًا لبعض شواهد الشقاق المشار إليه. فمثلاً: منذ احتلال الصهاينة مدينة القدس في ١٩٦٧ ظلتإدارة باحات المسجد الأقصى تحت هيمنة الاحتلال، والمثال هنا تحديدًا عن الجدار القديم في مدينة القدس القديمة الذي يشكل جزءًا من البناء المقام حول تل – أي "حائط البراق". وسبب التسمية في العربية معروف، في ما يسمى المكان نفسه "حائط المبكى" على ألسنة الصهاينة وفي الإعلام العالمي؛ وهذا الشقاق اللغوي محل تنافر وإصرار وتنازع بين طرفي الادعاء: الاحتلال وأصحاب الأرض.

ومن الأمثلة الأخرى الإصرار الصهيوني على التوسع في بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة التي يرتجى لها أن تكون أرض الدولة الفلسطينية الوليدة في الضفة الغربية وقطاع غزة (ظلت تلك المستوطنات في غزة حتى ٢٠٠٥ إلى حين تنفيذ خطة "فك الارتباط"). هنا تحفظ كثير من اللسانيين العرب على استخدام كلمة "مستوطنات" لأن جذرها اللغوي العربي هو "وطن"، فكأننا نساعد الصهاينة على اتخاذ الأراضي الفلسطينية وطنًا. فاقترحوا للكلمة بديلاً عربيًا هو "مستعمرات"، لكن فئة أخرى نقمت هذا الاستخدام لأنه من الجذر اللغوي "عمّر"، ومنه جاءت الأكذوبة الكبرى أن ما شهده العالم على مرون قرون كان "استعمارًا" – أي طلبًا للتعمير، لا للنهب والسرقة والقتل والتدمير وتأليب الشعوب والفئات والأفكار على بعضها بعضًا. وعلى ذلك، زاد جمهور الرافضين للمقترحين. فجاء مقترح ثالث هو تسمية تلك الكيانات المصطنعة "مغتصبات"، بجامع بشاعة الاغتصاب الذي يطال الأنثى والاغتصاب الذي يطال الأرض. ومع ذلك، فالغالب في الخطاب الإعلامي العربي استخدام كلمة "مستوطنات".

القائمة تطول على تلك الشواهد، خصوصًا أن كثيرًا من المناطق الداخلة في نطاق فلسطين التاريخية قد عومل أهلها بالإبادة أو التشريد، وتاريخها بالطمس أو التلمدة(نسبة إلى التلمود)؛ مع استبدالها بكلمات ذات رمزيات صهيويهودية. ولا شك أن تلك التدابير الاحتلالية الإحلاليةوالتدابير المستمسكة بالأرض في مواجهتها إنما تنم عن ذهنيات ذات تربّص ثقافي يراعي من الأمور دقيقها وجليلها، بما يعين على اتباع سردية تاريخية تنتظم كل مسالك الإحلال / المقاومة في عقدها، بما فيها المسلك اللغوي. وعصرنا هذا أرجى وأجدى ما يكون فيه الانتشار اللغوي في ظل الإلحاح البصري السمعي على حواسّنا مجتمعة بفعل ثورة الوسائط والانفجار الإعلامي الذي لا يعرف حدودًا.

من المسلّم به أننا نعيش عصر العولمة الطاغية في كل شيء، وليست العولمة اللغوية ببعيد عن لسان أبسط الناس. والإلحاح بالأفكار والمسميات يزيد في مساحة قبولها، أو على الأقل إلفها واعتيادها؛ ولذا أبدعت العامية المصرية: "الزن على الودان أمَرّ من السحر!" ويدخل في عداد ذلك الوصم الدائم للعرب وللمسلمين ولمرجعياتهم الفكرية في وسائل الإعلام والخطاب العالمية، فصرنا نسمع على الدوام مصطلحات من قبيل "جهاديين" (وصمًا لمفهوم الجهاد واجتزاءً له)، و"الإرهاب الإسلامي" لترسيخ هذا التلاصق بين مفهومين لا يلتقيان (الإرهاب والإسلام)، فضلاً عن وصم المسلمين بأنهم "جلادو نساء"، ووصم النبي الأكرم والعرب من ورائه بالشهوانية، وما إلى ذلك من أوجه الوصم التي من أحدثها سك مصطلح "الإرهاب الإسلامي السني"! في المقابل، تجد فكرًا سقيمًا مريضًا كالصهيونية يلقى كل تبجيل وتقدير وحماية على المستويات كافة؛ حتى تعالت الأصوات في ظل هذا العدوان الغاشم على غزة باعتبار نقد السياسات الإسرائيلية أو المساس بالفكرة الصهيونية من قبيل "معاداة السامية" التي شرعت لحمايتها القوانين والتشريعات!

وترتيبًا على ما سلف، لابد من توسعة ميدان المعركة إلى ميادين أخرى استجابةً لما يحدث، فلهذا آثاره النفسية واللغوية والإعلامية المفيدة. ومن أساليب ذلك الإحالة إلى علوم الألسنية وحسن توظيفها من باب "العين بالعين". الحاصل الآن أن عواصف النقد والصراخ والإدانة والتحسر على الفظائع المرتكبة في حق المستضعفين هي الطاغية على العقول؛ فالعاطفة (الواجبة المفهومة تمامًا) مسيطرة على عقولنا. ومن المنظور العلمي: العاطفة تزيد في إفراز الأدرينالين في الجسم تحفيزًا لردة الفعل الآلية الفطرية في الجسم، فمن أراد الرد العملي الموجع فليهدأ وليفكر بعقل بارد كما يقال. لذا فأحد أهداف ما يحدث هو إغراق الجميع في موقف رد الفعل الملتحف بالعاطفة، لا في موقف الفعل المهتدي بالعقل. وخروجًا من ضيق العاطفة الكسيحة إلى رحاب العقل الفسيحة، إليكم ما يلي.

كلمة genocide تعني "الإبادة الجماعية"، وهي اتهام لا تكف أطراف شتى عن الترامي به منذ عقود؛ لكنه نادرًا ما أفضى إلى المساءلة. أما من المنظور اللغوي، فهذه الكلمة منحوتة (والنحت اللغوي معناه ابتكار كلمة جديدة أو تعبير جديد أو استخدام كلمة أو تعبير موجود بالفعل استخدامًا جديدًا في غير ما وُضع له). وهديًا بذلك، نحت المحامي البولندي رافايل ليمكن كلمة genocide في عام ١٩٤٤ في كتابة "دور دول المحور في أوروبا المحتلة". أي أن الكلمة التي أصبحت "جريمة الجرائم في القانون الدولي" هي "ابنة أمس" كما يقال، ونحتها مفهوم من المنظور اللغوي كما يلي: نصفها الأول genos كلمة يونانية تعني "قبيلة" أو "عرقًا بشريًا"، وأما نصفها الثاني cide فهو لاحقة لاتينية تعني "القتل". ولما كانت الأحوال القائمة تقتضي وصمًا مقابلا (بالحق، لا بالباطل)، فالمقترح الجديد هو كلمة Ziocide: أي الإبادة الصهيونية (بمعنى: الإبادة الجماعية التي يرتكبها صهاينة). فالشق الأول من الكلمة مأخوذ من مصطلح Zionism (الصهيونية)، والثاني هو عينه اللاحقة الحرفية اللاتينية المذكورة آنفًا.

ومن أوجه الاستجابة اللغوية الأخرى لما يحدث في غزة سك مصطلح Zioheid (بمعنى: العنصرية الصهيونية). والشق الأول من الكلمة سبق توضيحه، أما الشق الثاني من كلمة apartheid (بمعنى: الفصل العنصري، خصوصًا كما شهدته جنوب إفريقيا). فهذه الكلمة مؤلفة من apart (بمعنى: "الفصل / التفرقة"، من اللغة الهولندية) ومن heid (بمعنى المصدرية). ومن هنا نسك هذا المصطلح الجديد دلالة على ما يقترفه الصهاينة من تفرقة عنصرية بغيضة ضد الفلسطينيين.

ثمة مثال آخر مبعثه هو التضليل الإعلامي الذي لا تكف عنه الآلة الصهيونية سواء أكانت تبث أو تكتب في الكيان الصهيوني أم خارجه. وقد نظّرَت علوم الاتصال (الإعلام) لمصطلحات تحليل الخطاب الإعلامي، حتى خرجت علينا بمصطلحات أحدها disinformation(بمعنى: التضليل الإعلامي، أي الكذب المحض في المحتوى وفي العرض). ولأن الدعاية الصهيونية وداعميها جديرون بالوصم، فالمقترح وصمهم بمصطلح جديد هو Zio-information؛ (بمعنى "التضليل الإعلامي الصهيوني"). أما ارتكان الصهاينة إلى الدعم الدولي اللامحدود سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا فهو دليل على "الطفيلية الصهيونية"، أو Zioparasitism، فالطفيلية تعني في عالم الحشرات والحيوان أن الكائن الطفيلي لا يعيش بمفرده، بل يحتاج إلى كائن ليعيش عليه أو معه. فالصهيونية كائن طفيلي على داعيمه؛ وحق لنا وعلينا سك هذا المصطلح تدليلاً على تلك الحالة.

المقترحات الأخرى كثيرة وممكنة، والغاية هاهنا هي الوصم المستحق لمن وصمونا بغير حق، وإحياء مسار الاشتباك اللغوي كي لا يموت في ظل الطغيان الإعلامي وعولمة الإعلام التي لا تكف عن الإلحاح عن حواسّنا. نزعة الاستقلال وسمو النفس على الضيم والذل هي مجموع ما نحيا له وبه وعليه؛ واللغة محور كل شيء وأساس التعبير عنه؛ وعلينا تطويع العلوم لنفعنا ولضر عدونا، واللغة سلاح ماضٍ في هذا الصدد، لا سيما إذا أعملناهفي وجه العدو باللغات التي يفهم وبالأساليب التي منها ينفر وللأهداف التي منها يضج... فتحية لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف على هذا المنحى الجديد. لقد جاء ميلاد المرصد منذ عام ٢٠١٥ لعكس مسار التقليد واستشراف المستقبل بلغة العصر، فهو حريّ بالتجديد في كل موضع وكل قضية داخلة في اختصاصه؛ والخطاب الإعلامي من تلك الاختصاصات، فهنيئًا للأزهر أن أقام المرصد شهابًا رَصَدًا.

تم نسخ الرابط