تحدثت في المقال السابق عن إفساد بيئة الطرق بأنانيَّة بعض الناس، وسعيهم لتحقيق مكاسب خاصة على حساب العامة، كالاستيلاء على الطرق أو أجزاء منها وضمها إلى ملكياتهم الخاصة، وأواصل الحديث عن السلوكيَّات الخاطئة التي تفسد بيئة الطرق على الناس، ومن ذلك إفساد بيئة الطرق بالتعرض للمارة في الطريق بالنظر أو القول الفاحش.
فالتعرض للمارة في الطريق بالنظر المحرَّم أو القول الفاحش البذيء، والذي يسميه أهل العصر "المعاكسات" وهو نوع من الإيذاء المعنوي لا البدني، وهو محرم بنصوص شرعنا الحنيف حيث يقول U:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُن َّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }،وقال e:"إِيّاكُمْ وَالجلُوسَ بالطّرُقَاتِ، فقَالُوا يَا رَسُولَ الله مَا بُدّ لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدّثُ فيهَا، فقَال رَسُولُ الله e: إِنْ أَبَيْتُمْ فأَعْطُوا الطّرِيقَ حَقّهُ قالُوا وَمَا حَقّ الطّرِيقِ يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى وَرَدُّ السّلاَمِ وَالأمْرُ بالمَعْرُوفِ وَالنّهْيُ عنِ المُنْكَرِ"، وقال e للإمام علي –كرم الله وجهه-:"لا تتبع النظر النظر فإنَّ الأولى لك وليست لك الأخيرة"، والمقصود بالنظرة الأولى المباحة نظرة استكشاف الطريق والتي لا يمكن الاحتراز عنها حتى لا يصاب المارُّ في الطريق بالأذى.
ومن إفساد بيئة الطرق : مخالفة القواعد المروريَّة.
فكثير من الناس لا سيما الشباب منهم لا يلتزمون بقواعد المرور في الطرق العامة التي يضعها الخبراء في مسائل السير، والتي يرون أن اتباعها يجنب المارة وقائدي المركبات حوادث الطرق، كالإشارات الضوئيَّة، وتحديد سرعات معينة تختلف باختلاف موقع الطريق وقوة تحمله والكثافة السكانيَّة واعتدال الطريق وتعرجاته ...الخ، فلا يلتزمون بتلك التعليمات فيتجاوزن الإشارة الضوئيَّة، أو يسيرون في اتجاهات ممنوعة، أو يتوقفون في أماكن محظورة، أو يسيرون بسرعات كبيرة تهدد حياة قائد المركبة ومن معه وكذا المارة في الطريق و من يجاورونه بالأخطار، حتى إنَّه أصبح من المألوف أنَّك إذا سرت في طريق ما رأيت في موضع منه آثار حادث مروع وقع قريبًا، أو رأيت الحادث وهو يقع، وإذا مررت على مستشفيات بلد ما ندر أن ترى إحداها خاليًا من مصابين أو قتلى نتيجة حادث مروري، مع أنَّ هذا التهور في القيادة وتجاوز السرعات المقررة للسلامة منهي عنه في قولـه U:{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ،وفي قوله U: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}، ويخالف آداب السير المنصوص عليها في قوله U:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور.وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ؛ لذا فليعلم أولئك الذين يتجاوزن السرعات المقررة على الطرق، أو يقودون سياراتهم بطريقة غير صحيحة كالسير في اتجاهات يمنع السير فيها، أو لا يلتزمون بالإشارات المرورية، أو يقودون سيارتهم وهم في حال لا تسمح لهم بالقيادة كمن يغالبه النوم، أو تكون سياراتهم غير صالحة للاستخدام الآمن، يخالفون الشرع ويعصون بفعلهم هذا وإن لم يترتب على ذلك وقوع حادث بالفعل، لما هو معلوم من أنَّ الأسباب في الشرع تأخذ أحكام مسبباتها المترتبة عليها، ولما كان التهور ومخالفة قواعد السير سببًا في وقوع الحوادث، كان محرَّمًا لذاته كالجناية المترتبة عليه، فإن وقع لقائد المركبة المخالف أو لغيره مكروهًا،فإن كان له فهو نوع من قتل النفس أو الاعتداء عليها بما أصابها من كسر أو بتر،وإن كان لغيره فهو من قتل الغير خطئًا إن مات المصاب أو الاعتداء على الغير بما أصابه يتحمل تبعته الجنائيَّة، ولولا انتفاء صفة العمد عن هذه الحوادث لوجب القصاص من مرتكبيها؛ ولذا لو أمكن إثبات تعمدِّه كما لو اعترف بذلك ولم يعف عنه المجني عليه أو ولي دمه إن مات، اقتص من الفاعل، فليتق الله كلُّ سائر في طريق في نفسه أولًا، وفي أهله وفي الآمنين الذين يسيرون في الطريق أو يتواجدون بالقرب منه، وعلى كلِّ راغب في مرضاة ربِّه أن يكون ممن امتدحهم ربهم لجملة من الخصال كان من أولها أ السير المعتدل في الطريق العام فيقول U:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ،فقد أضافهم ربُّ العالمين U إلى اسم من أسمائه الحسنى تكريمًا لهم وإظهارًا للرضى عنهم، فكأنهم هم عباد الرحمن فقط، مع أنَّ جميع الخلق عباد له، فإذا أردنا أن ننضم إلى هذا الفريق المَرْضِيِّ عنه من ربِّ العالمين U فلنتصف بصفاتهم، وأولها الالتزام بآداب الطريق.
ومن الاعتداء المفسد لبيئة الطرق إلقاء المخلفات في الطريق العام.
فمن السلوكيَّات شديدة القبح ما يقدم عليه بعض الناس من التخلص من مخلفات منازلهم أو مصانعهم بإلقائها في الطرق العامة، وهو عمل لا يقل إثمًا عن قيادة السيارات بطريقة غير صحيحة؛ لأنَّ نتائجه مماثلة له فهو عمل يعرِّض حياة المارة في الطريق لخطر الحوادث، لا سيما أولئك الذين يلقون أجسامًا صلبة كمخلفات البناء في أماكن لا يتوقعها المارة كالمناطق المظلمة من الطريق، وهو عمل إجرامي شديد القبح يجب معاقبة فاعليه بالعقوبات الرادعة ولو لم يترتب عليه ضرر فعلي؛ لأنَّ فاعله استهان بحياة الناس وبحق الآخرين في استخدام الطريق استخدامًا آمنا، و قد حذَّر شرعنا من إيذاء الناس في طريقهم في نصوص كثيرة منها ما سبق ذكره من كتاب الله وغيره كثير، ومنها قوله e:"من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم"، كما رغَّب الإسلام في عكس الفعل المنهي عنه، وهو إماطة الأذى عن طريق الناس، وعدِّه من أعمال البرِّ التي يؤجر فاعلها، حيث يقول e: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"، ولنتأمل قولـه e والذي يُعَدُّ منهجًا متكاملًا في التعامل مع الطريق: قَالَ: " تَعْدِلُ بَيْنَ الاثنين صَدَقَةٌ. وَتُعِينُ الرّجُلَ فِي دَابّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ، صَدَقَةٌ". قَالَ: "وَالْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصّلاَةِ صَدَقَةٌ،وَتُمِيطُ الأَذَىَ عَنِ الطّرِيقِ صَدَقَةٌ"..وللحديث بقية بإذن الله.***