الجمعة 05 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

لا عقاب على فاقد الشعور أو الاختيار.. جنايات المنصورة توضح موانع المسؤولية الجنائية

المستشار بهاء المري
المستشار بهاء المري

قالت محكمة جنايات المنصورة في حيثيات حكمها برئاسة القاضي بهاء المري، في قضية النيابة العامة  رقم 7880 لسنة 2021 مركز المنصورة، المقيدة برقم 912 لسنة 2021 كلى جنوب المنصورة، والصادر فيها حكما بإعدام المتهم بقتل نجله، ردا على ما أثاره الدفاع من عدم مسئولية المتهم عن فعله وقت ارتكابه.

أوضحت المحكمة أن المادة 6۲ من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة ۱۹۳۷ قد نصت على أنه: "لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل وإما لغيبوبة ناشئة من عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها" وكان القانون رقم 71 لسنة ۲۰۰۹بإصدار قانون رعاية المريض النفسي وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية الصادر بتاريخ 14/5/۲۰۰۹ قد نص في مادته الثانية على أن: "يُستبدل بنص المادة 62 من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة ۱۹۳۷ النص الآتي: "لا يُسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أو فقده الإدراك أو الاختيار الذي يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه بها ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره ، وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة". لما كان ذلك، وكان من المُقرَّر أنَّ تقدير حالة المتهم العقلية والنفسية، وإنْ كان في الأصل من المسائل الموضوعية التي تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه يتعين عليها ليكون قضاءَها سليمًا أن تُعيِّنَ خبيرًا للبتِّ في هذه الحالة وجودًا أو عدمًا، فإنْ لم تَفعل؛ كان عليها أن تُورد في القليل أسبابًا سائغة؛ تَبني عليها قضاءَها برفض هذا الطلب، وذلكَ إذا رأت من ظروف الحال، ووقائع الدعوى، وحالة المتهم، أن قواه العقلية والنفسية سليمة، وأنه مسئولٌ عن الجُّرم الذي وقع منه (نقض جنائي، الطعن رقم 9508 لسنة 87 ق جلسة 3 / 4 / 2018).

المتهم ونجله

أسباب قناعة المحكمة بملكة الوعي والتمييز

أشارت المحكمة إلى أنها تُوردُ في حُدود سلطتها التقديرية، أسباب قناعتها بتمتع المتهم بملكة الوعي والتمييز والقدرة على حُسن الإدراك وسلامة قواه العقلية والنفسية وقت ارتكاب الجريمة، وذلك من مَسلكه وأفعاله وأقواله، سواء ما كان منها سابقًا على وقوع الجريمة، أو أثناء ارتكابه لها، أو من بعد مقارفتها، وهي قرائن تؤكد - في عقيدة المحكمة - أنه كان حافظًا لشعوره واختياره وقت ارتكاب الحادث، ولا يُخالج معها المحكمة أدنى شك، في خصوص سلامة قُواه العقلية والنفسية، وآيةُ ذلك: أن الثابت من الأوراق أنه منذ فجر التحقيقات وحتى انتهائها، كان المتهم يُجيب على أسئلة  وكيل النيابة المُحقق بدقةٍ بالغة، وبكلام مُتناسق مُترابط واع دقيق، وجاء اعترافه التفصيلي مُطابقًا تمامًا لِما قام به من جُرم، مما يقطع بأنه اقترف الجريمة وهو حافظٌ لشعوره واختياره، وفي حالة عقلية ونفسية سليمة، يُنبئ عن ذلك بجلاء، ما كان منه من تدبير وإحكام في ارتكابها، حيث فكر مَليًا وأطال الرؤية بعيدًا عن سَورة الانفعال أو الغضب في قتل ولده وذلك لفترة سابقة على يوم التنفيذ، تفكيرٌ لا يأتيه إلا ذو عقل سليم وحالة نفسية مستقرة سليمة واعية، ذلك أنه أنشأ قبل ارتكابها حسابًا وهميًا على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي (تليجرام) وراح يُرسل لنفسه منه على هاتفه المحمول رسائل تهديد بقتل أحد أبنائه، ليتذرع بها لاحقًا لُيبعدَ الشبهة عن نفسه، ثم أزال البرنامج من بعد حتى لا تصل إليه يد العدالة، وفي يوم التنفيذ ترك حافظة نقوده ومفاتيحه عامدًا قبل أن يُغادر مسكنه، لتكون ذريعة ليأتيه بها المجني عليه - حتى لا يبدو أمام زوجته بأنه اصطحبه معه ولم يَعُد به - ثم اتصل بها لتُرسلهُ بها إليه؛ ففعلت، ولما التقاه كلفه بأن يَسبقه إلى الطريق الرئيس للقرية ليأخذه في نُزهة - حتى لا يشاهده المارة أو تلتقط كاميرات المراقبة صورته وهو في معيته قبل قتله - وأركبه السيارة التي يقودها، وبعد نصف ساعة اتصل بزوجته مرة أخرى يسألها عنه ويخبرها بأنه انصرف بعد أخذ حاجاته منه، وفي السيارة أعطاه قُرصًا مُنومًا كان قد أعده لهذا الغرض كالخطة المرسومة في ذهنه؛ ليتمكن بسهولة من ذبحه، ثم تَجول بالسيارة حتى غلب الطفل النعاس، ثم يوالي تنفيذ تخطيطه المُحكم الذي يتدرج من مرحلة إلى أخرى - وهو تخطيط وتنفيذ الشخص الواعي سليم العقل والنفس - فقصد صيدلية اشترى مِبضعًا (مشرط جراحي) ليكون أمْضَى من غيره من الأسلحة البيضاء في الذبح، ثم تَخيَّره مكانا يَعزُ فيه المارة والسيارات؛ ويَنبتُ فيه الغاب (الهيش) ليتخذ منه ستارًا، ثم أضجَعَ المجني عليه أرضًا وذبحه بالمِشرط الطبي مارًا على رقبته به مرتين حتى أزهق روحه، ثم كان تصرفه تصرف العقلاء المُبرئين من أي مرض عقلي أو نفسي، فمَسح دم ابنه من على يديه بمنديل ورقي وضع فيه المشرط وألقاه في هذا المكان، يُضاف إلى ذلك مما تستخلصه المحكمة وتطمئن إليه - كدليل على  سلامة عقله ووعيه ونفسه - إمعانه بذات الفكر الهادئ، والهدوء النفسي في حبك مُخططه حتى النهاية، فيُجري اتصالاً بصديق له مُدعيًا تَغيب المجني عليه ومُستعينًا به ليَبحثا عنه مَعًا، ثم يكتب مَنشورًا على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) يُعلن فيه تَغيُب ابنه - وهو ما لم يفعله من قبل في مرات عديدة تَغيب فيها عن المنزل - ثم يعود إلى بيته بعد منتصف الليل، ولما طلبت منه زوجته النزول للبحث عن ابنها ومشاهدة كاميرات المراقبة الخاصة بالمحلات همَّ مُسرعًا في الصباح وسبقها بالنزول وعاد ليخبرها بأنه شاهد الكاميرات ولم ير فيما سجلته المجني عليه، وحتى بعد عثور الأهالي على جثة القتيل، راح يُنكر - وهو رابط الجأش - في الشرطة والنيابة العامة قبل مواجهته بعناصر الاستدلالات مُجتمعة، وإذ أٌسقطَ في يده اعترف اعترافًا تفصيليًا بدقائق وتفاصيل الأمور سالفة البيان جميعها. هذه التفاصيل التي استخلصَت منها المحكمةُ مُطمئنةً - على النحو مار السرد - تمتعه بمَلكة الوعي والتمييز والقدرة على حُسن الإدراك وسلامة التدبير العقلي والنفسي وقت ارتكاب الجريمة، كما استخلصت أنَّ دقته في رواية الواقعة بهذا التسلسل وهذا التَّذكُّر لصغائر التفاصيل قبل كبيرها؛ ليس شأنُ الشخص المُختل العقل أو المضطرب النفس، بل هو شأن العاقل الماكر المُدبِّر سليم العقل والنفس، يضاف إلى ذلك، أنَّ المحكمةَ لم تلحظ عليه خلال المُحاكمة ما يَنُمُ عن إصابته بمرض عقلي ولا اضطراب نفسي، فإن هذا المسلك - على النحو سابق التفصيل والبيان - يدل بجلاء على أن المتهم قبل ارتكابه للواقعة، وفي أثناء ارتكابها، وبعد مقارفته لها، كان في وعي تام مدركاً تمام الإدراك لأفعاله، ومن ثم تطرح ما أثاره الدفاع عنه في شأن قواه العقلية أو النفسية.   

تم نسخ الرابط