ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

في طفولتي عندما كان يدخل موسم فاكهة المانجو كان أبي يحضر منها كمية للبيت وكنا نجلس حوله لنشاركه طعمها العذب ، فكان يعطينا اللب منها ويقوم هو بأكل قشورها، كنت أراقب هذا التصرف الغريب منه دون أن أعلم السبب  ، وسألته يوما لماذا تأكل قشور المانجو يا أبتي ! ؟ نظر إليّ بابتسامه وقال :  "آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت" لم أفهم معنى كلامه في وقتها ، وبررت الأمر بأنها قد تكون عادة قديمة اكتسبها من أيام طفولته وخصوصًا أن طعم قشور المانجو ليس سيئا ولكنه لا يقارن بما هو تحت تلك القشور. نسيت أمر قشور المانجو كما نسيت كثير من الذكريات بين صفحات كتاب الزمن إلى مدة قريبة عندما أهداني صديق لي فاكهة مانجو ، جلبهالي كهدية من مزرعته  وبمجرد أن وصلت البيت بدأت في تقطيع تلك المانجو وهي تتفجر بين يدي بما تحتويه من لب ذهبي وعصير ملكي ، وقبل أن أضع أول قطعة منها في فمي اقترب مني أولادي وطلبوا حصتهم من المانجو ، كانت فرحتي بالنظر لهم وهم يمرغون وجوههم بقطع المانجو والسعادة والفرح تشع من أعينهم كشمس الصباح الدافئة بعد ليلة شتاء قارص ، وفي لحظة وجدت نفسي أمام صحن خالٍ إلا من بعض قشور المانجو التي مازال عالقا بها أجزاء صغيرة من فتاتها.

بدأت بالتهام قشور المانجو دون تفكير إلى أن توقفت فجأة لأتذكر كلمات أبي، فالآن فقط بعد كل تلك الأيام اتضحت لي معنى كلماته وماذا كان يقصد بعبارته ، الآن فقط علمت أن سعادة أبي الحقيقية لم تكن يوما في أكل قشور المانجو ،  وإنما كانت سعادته الحقيقية في رؤيتنا ونحن نأكل أفضل جزء منها أمامه ، كانت فرحته الغامرة وهو يشاهدنا ونحن نحصل على أفضل وأنقى وأجود ما كان يقدمه إلينا في لحظتها .... وتساءلت حينها والدموع في عيني ....يا هل ترىكم من مانجو قدمها لنا أبي واكتفى هو بمجرد قشورها ؟!!!

والشاهد من الرواية ليست المانجو بذاتها ، ولكن أقصد كل ماترمز له في هذه الحياة  فالمانجو قد تكون ملبسًا أو بيتًا أوفراشًا أو نومًا مريحا أو تعليمًا ....

وقد تكون أيضا لمسة حنان على الكتف أو قبلة على الوجه ، فمانجو الأهل لا حدود لها ، ولا يمكن لأحد أن يقيّم سعرها، وأنظر من حولي لأجد أبناء لا يقدرون أهلهم حق القدر ولا يوفونهم حقهم ، فبات الآباء مكدرًا صفوهم بين التماس الأعذار لأبنائهم في عقوقهم لهم وبين إحساسهم بالحرمان من حقوقهم التي تنكر لها أبناؤهم وسلبوهم إياها عندما اشتد ساعدهم فتملكهم الغرور حتى حسبوا أنهم يفوقون آباءهم علمًا وفكرًا ومنطقًا .

 أرى أبناء يقدسون كلمة الزوج أو الزوجة في مقابل دموع الأم أو الأب .

أرى أبناء يتركون آباءهم في ديار رعاية بعيدة ويتركونهم لرحمة الغرباء تخلصًا منهم ومن حمل عبء رعايتهم . 

أرى أبناء قد يقاطعون أهلهم سنينًا . أرى أبناء يتمنون زوال أهلهممن هذه الدنيا عاجلًا ليس آجلًا .

أرى كل ذلك وفي نفسي لو كان الأمر بيدي لدفعت عمري كله ثمنًا حتى يعود بي الزمن لأجلس مع أبي يومًا واحدًا أسبقه حينما يحضر فاكهة المانجو لألتهم قشورها بدلًا عنه ليتبقى له فقط أفضل ما فيها ، حتى إذا سألني لماذا أحب أكل قشور المانجو فأقول له  "آكلها أنا حتى لا تأكلها أنت" .

هذه الكلمات إلى كل من مازال أبواه على قيد الحياة ، عسى أنتجد إلى قلبه دليلًا .

اللهم اغفر وارحم آباءنا وأمهاتنا واجعلهم من أهل الفردوسالأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ألبس لباس الصحة والعافية لكل من هم على قيد الحياة من الآباء والأمهات واعفُ عنهم ولا تقبضهم إلا وأنت راضٍ عنهم يا سميع يا عليم.. اللهم سدد خطاهم وأحسن خاتمتهم وألحقنا بهم في جنات النعيم .

تم نسخ الرابط