إنَّ المُتأملَ في الخطاب القرآني، يجدُ أنَّ اللهَ –عز وجل- قد رسم لنا طريقَ الهداية، وبيّن كيفية الوصول إليه، فجاء في خطاب بديع، وبيّن كيفية الحصول على محبة الله.
فجاء مشرفًا لنبيه ورافعًا لشأنه فجعل محبته مشروطة باتباع نبيه، فقال:" قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[آل عمران:31].
فهذه الآيةُ حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يَتَّبِعَ الشرعَ المحمدي والدينَ النبوي في جميع أقوالهِ وأفعالهِ.(تفسير ابن كثير، ٢/ ٤٤٠)، وقال الحسن البصري: ادعى أُناسٌ محبةَ اللهِ -عز وجل- فابتلاهم الله بهذه الآية: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ".
فالمحبةُ الحقيقيةُ للنبي صلى الله عليه وسلم تتمثلُ في طاعتهِ واتباعِ سنتهِ والاقتداءِ والتأسي به، وليست المحبةُ مجردَ كلامٍ يُقال باللسان أو شعارات تردد أو خُطب ودروس تُلقى على الناس، ولكن لا بد من ترجمة كلِّ هذه الأحاديث والخطب والدروس والمقالات والندوات إلى واقع عملي في الحياة حيث يعيش الفرد وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه المحبةُ ليست من قبيل السنن والنوافل التي إنْ فعلها العبدُ أُثيبَ عليها وإنْ لم يفعلْها لم يعاقبْ عليها بل هي أصلٌ عظيمٌ من أصول الإيمان، وفي ذلك يقول جل وعلا: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" [التوبة:24].
فكفى بهذا حضاً وتنبهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله:"فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ" ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ٢ / ١٨).
هذا وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده"، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
والمحبةُ على ثلاثة أقسام محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة في محبته. والمعنى أن من استكمل الإيمان علم أن حقه صلى الله عليه وسلم عليه آكد من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لأنه صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار وهدانا من الضلال.(الديباج على مسلم، ١ / ٦٠).
وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"(رواه البخاري).
فحبُ الإنسانِ نفسَه طبعٌ، وحبُ غيرهِ اختيارٌ بتوسط الأسباب وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولاً كان بحسب الطبع ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى فأخبر بما اقتضاه الاختيار ولذلك حصل الجواب بقوله: الآن يا عمر أي الآن عرفت فنطقت بما يجب.(فتح الباري، ١١/ ٥٢٨).
وحقيقةُ المحبةِ: الميلُ إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. (الشفا، ٢/ ٣٠).
وإنَّ من محبته صلى الله عليه وسلم : طاعته في ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وفي ذلك يقول تعالى: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"(النساء:80)، وقال:"وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا"(النساء:69، 70).
وقد حذر جل وعلا من مخالفة أمره فقال: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا". فعلامة المحبة الصادقة لله ورسوله هي اتباعه، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محباً له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة.(أضواء البيان، ١/ ١٩٩).
وفقنا الله وإياكم لهذه المحبة الصادقة باتباعه وامتثال أوامره واجتنباب نواهيه والعمل بسنته والدفاع عنها ونشرها. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.