كنت قد كتبت من قبل عن أدب الحوار وأنه من مقومات الإنسانية ، ونظراً لما أراه الآن من فقدان أدب الاختلاف بين الناس بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم ،بين المتعلمين والمثقفين وأصحاب الرأي.... إلي آخر أصناف الناس علي اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم العلمية والثقافية ،نظرا لذلك وتتميما للفائدة مع أدب الحوار ، كان ضرورياً أن أكتب في أدب الاختلاف.
توطئة:
من سنن الله تعالى التنوع والاختلاف في الكون كله ، وكان للبشر النصيب الأكبر من هذا الاختلاف والتنوع في كل شيء ، في الجنس ، و النوع ، واللون ،واللسان ، والفكر ، والعقل ، والنفس ، حتى الاختلاف في المعتقد القلبي ،قال تعالي : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾[ الروم: ٢٢]
الفرق بين الاختلاف والخلاف :
الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد ورد فعل الاختلاف كثيراً في القرآن الكريم ، قال تعالى:{ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } (مريم) ،وقال تعالى:( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (٦٩الحج) .
أما الخلاف فهو مصدر من خالف إذا عارضه ،قال تعالى:(وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِیقِیۤ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ أُنِیبُ ) ( هود ٨٨ )
والاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٍۢ مُّخْتَلِفًا أَلْوَٰنُهَا ۚ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌۢ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) (فاطر ٢٧)
وأما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك ، وينصرف الاختلاف غالباً إلي الرأي ، فيقال : اختلف فلان مع فلان في كذا.
ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة ، بل قد يدل على بداية الحوار ، فإن ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه وقال : الخلاف شر .
وقد يدل الخلاف على القطيعة.
هذه المعاني والفروق اللغوية حملتني علي استعمال كلمة الاختلاف التي قد تكون مقدمة للتفاهم والتكامل وتفضيلها على كلمة الخلاف .
التواصل بين الناس:
التواصل مع الآخرين ضرورة فطرية لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين، فقد خلق الله تعالى الإنسان وزوجه، وجعل من مقتضى فطرته السكن والأنس بالآخر، كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) وقد عبر علماء الاجتماع عن هذه الحقيقة الفطرية بقولهم “الإنسان مدني بطبعه”
قال ابن خلدون في مقدمته :(٢/٣٤١) :
"إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم: “إنّ الإنسان مدنيّ الطبع”، يذكرونه في إثبات النّبوّات وغيرها، والنسبة فيه إلى المَدِينة، وهي عندهم كناية عن الاجتماع البشريّ، ومعنى هذا القول: أنّه لا تمكّن حياةَ المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجودُه إلّا مع أبناء جنسه، وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محْتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه، وتلك المعاونةُ لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها ......."
وفي الأمثال الشعبية ما يشير إلى هذه الحقيقة الفطرية مثل قولهم : الإنسان قليل بنفسه ،كثير بإخوانه.
وكذلك فإن التواصل مع الآخرين ضرورة دينية فالمسلم مأمور بالتواصل مع الآخرين، وتعريفهم بالإسلام بصورته الحضارية اللامعة، مع اتباع الحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ويأتي التواصل في إطار مفهوم الاختلاف كونه سنة كونية فقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف بين البشر سنة كونية، ومشيئة ربانية، لا يتمكن أحد من تغييرها قال تعالى (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) بل إن هذا الاختلاف آية دالة على عظمة الله تعالى وتوحيده قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول : "وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه" ( إعلام الموقعين)
ولا شك أن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية إلى حد بعيد، إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس أصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك أن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بين الناس بفروقهم الفردية - سواء أكانت خلقية أم مكتسبة - وبين الأعمال في الحياة تواعد والتقاء؛ وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات إلخ .
خلاصة الأمر:
فليكن الاختلاف بوجهات النظر ظاهرة صحة تغني العقل الإنساني بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر،ورؤية الأمور من أبعادها وزواياها كلها، وإضافة عقول إلى عقل، وليكن الحوار مؤدبا محترماً.
وختاماً أقول:
أصبح من الضروري الآن بعد غياب الوعي والفكر السديد نشر ثقافة آداب الحوار والاختلاف ، بل أري أن يكون ذلك مادة تدرس في مدارسنا وجامعاتنا .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه