ads
الأحد 22 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

مبادئ حقوق الإنسان في قضاء محكمة النقض

القاضي عادل ماجد
القاضي عادل ماجد

في تعرضه لقضاء محكمة النقض في مجال حماية وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان أشار القاضي عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض إلى أن محكمة النقض قد أنشأت بتاريخ 2 مايو 1931، محكمة واحدة مقرها القاهرة، تقبع على قمة الهرم القضائي، وتُمَثل إحدى سلطات الدولة الثلاث التي يقوم عليها نظام الحكم، وترتكز عليها دعائم سيادة القانون، وترنو إليها الأبصار باعتبارها أعلى درجات التقاضي، وضامن توحيد المبادئ القانونية واستقرار الأحكام القضائية، من خلال ممارسة دورها في مراقبة حسن تفسير وتأويل القانون وصحة تطبيقه، بل إن دورها تعدى ذلك لتكون ملهمة للفقه ودافعاً للمشرع إلى تقنين ما انتهت إليه من اجتهاد.

وأضاف القاضي عادل ماجد في دراسته التي نشرتها الهيئة العامة للاستعلامات مؤخرا بمناسبة الاحتفال بعيد القضاء المصري، بعنوان "الدور الخلاق لمحكمة النقض في حماية وتعزيز الحقوق والحريات"، أن محكمة النقض تباشر وظيفتها بصورة تختلف عن وظائف محاكم الموضوع التي تتولى الرقابة القانونية على أحكامها، فوظيفتها لا تنحصر في مجرد الفصل في الخصومة الجنائية، بل إنها تتعدى ذلك إلى هدف أسمى، وهو توحيد المنطق القضائي في الأحكام، لكي تضمن وحدة أو تقارب الحلول القضائية التي تخلص إليها محاكم الموضوع على الوقائع المتماثلة، وتكفل سلامة العمل القضائي ودقته، وحماية حقوق الأفراد، فترسخ الثقة بأحكام القضاء، وهي مهمة ليست بالهينة عندما تتعدد وتتنوع محاكم الموضوع التي تُعرض عليها أحكامها. ومن ثم فليس من المستغرب أن نلاحظ أن محاكم الموضوع تعول في صياغتها وتسبيبها على المبادئ التي أرستها محكمة النقض لتحقيق الأهداف المتقدمة.

وبوصفها تحتل أعلى درجات السلم القضائي، فقد أصدرت أحكاماً مشهودة وأرست مبادئ راسخة جعلتها بحق قمة القضاء المصري وصرحه الشامخ، ومصدر إشعاع دائم متواصل العطاء، يثري الفكر القانوني المصري والعربي، بل إن أحكامها تعدت حدود الوطن العربي لتصبح محل إشادة في المحافل الدولية.

وبالنظر لعظم الرسالة الملقاة على عاتقهم، آمن قضاة محكمة النقض بأن معني القانون ليس أسيرًا لنصوصه الجافة أو حروفه الجامدة‏،‏ فطوروا منهجًا قضائيًا متميزًا، لتفسيره، وإنزال أحكامه مشرئِبة بمبادئ العدالة لحماية الحقوق والحريات، وباتت محكمة النقض حصن حماية حقوق الإنسان الأساسية.

ومما لا شك فيه أنه من أعظم الإجراءات التي تتعرض فيها حقوق الإنسان للتقييد إجراءات الدعوى الجنائية، لا سيما حين يكون الشخص في موقف الاتهام، معرضًا لخطر العقوبات، تحدد مصيره منظومة العدالة الجنائية.

وتمارس محكمة النقض وظيفتها القضائية في حماية حقوق الإنسان بصدد ما يعرض عليها من الأحكام الانتهائية الجائز الطعن عليها بالنقض، من خلال ضمان تطبيق الإجراءات الجنائية على نحو يحقق مصلحة المجتمع من ناحية ويراعي ضمانات المحاكمة المنصفة وحماية الحقوق الأساسية لكل شخص تتعلق به تلك الإجراءات من ناحية أخرى، بما يُرسخ مبادئ الشرعية الجنائية، وهي مهمة ليست بيسيرة تتطلب التعمق في البحث والاجتهاد.

وإبان ممارسة محكمة النقض دورها في ضمان صحة تطبيق القانون وتوحيد تفسيره وتأويله، تطرقت إلى أدق المفاهيم المتعلقة بحقوق الإنسان، مسترشدة في ذلك بأعلى المعايير الواردة بالدستور والمواثيق الدولية، وأرست من خلال قضائها العديد من المبادئ القانونية التي تمكن الإنسان من ممارسة حريته في إطار الشرعية بلا خوف أو وجل من بطش عات أو سطوة جبار. وفي عام 1958 وقبل إصدار أشهر الوثائق الدولية الأساسية في مجال حقوق الإنسان، قال قضاة محكمة النقض الأجلاء عبارتهم الشهيرة:

" لا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الإفتات على حريات الناس والقبض عليهم بغير وجه الحق".

 وبموجب هذه العبارة جليلة المعنى ومحكمة الصياغة كرست محكمة النقض أعلى قيم الحرية والعدالة خلال المحاكمات الجنائية، كما أرست دعائم المحاكمة المنصفة، وأكدت على أنه لكي يحقق القضاء رسالته الجليلة في حماية حقوق الإنسان فيجب توافر الضمان القضائي في الإجراءات التي تمس هذه الحريات، على النحو الذي يُرسي قواعد الشرعية الإجرائية.

وأثبت قضاة محكمة النقض من خلال اجتهاداتهم القضائية أنهم المثل الذي يحتذى به في حمل الأمانة وأداء الرسالة لإحقاق الحق وإقرار العدل، بهدف إعلاء سيادة القانون، وحماية الشرعية الإجرائية، وصيانة حقوق الإنسان، وأصبحت أحكامهم موضع تقدير ومصدر إلهام، أرست من خلالها مبادئ يسير على هديها الكافة وبها يعملون. ونزل المشرع على رأيها وتلافي العديد من العيوب التشريعية التي كشفت عنها أحكامها، ومن تأصيلها وتفسيرها استلهم أهم مصادره في تشريعات عدة منها ما يمس أدق الحقوق والحريات. كل ذلك بغرض دعم نظام فاعل للعدالة الجنائية يضمن عدم الإفلات من العقاب، دون الافتئات على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، بالقدر اللازم لتحقيق التوزان بين مصالح المجتمع وحقوق الأفراد.

ومما يُميز قضاء محكمة النقض حرص قضاتها الأجلاء على مراعاة الظروف والسياق العام الذي يحكم مبادئ حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بتطور منظومة حقوق الإنسان الدولية، بمرور الزمن، وارتقائها، وانعكاس ذلك على التشريعات الوطنية، ومن ثم على العمل القضائي.

وبذلك تكون محكمة النقض وبحق الملاذ الأخير في منظومة العدالة الجنائية لحماية حقوق وحريات الناس وتكريس أعلى معايير حقوق الإنسان في الأحكام القضائية الوطنية، بما يُبرز دورها الفعال في حماية وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان على كافة المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.

تم نسخ الرابط