استيقظت صباح اليوم الأربعاء الموافق 20 ديسمبر 2023 على نبأ انتحار أستاذ بجامعة الأزهر لضغوطات اجتماعية، فتوقف فكري للحظة، وارتبك شعوري بين لوم وتعاطف وخوف، وعكفت أبحث في المعاني واستقصي المعلومات، وطالعت التعليقات على واقعة الانتحار فوجدتها إمّا: لمرض في المنتحر، أو بعد عن الله، أو إهمال من المقربين، أو ضغط اجتماعي طارئ لم يتحمله المسكين، فازدادت حيرتي رغم أنني أمام تصنيفات بديهية في التعليق على القضية، فاستثبت العقل ثم ورد بخاطري عبارة: (لا تستسهل الأمر فكل معافى أمير في العتاب)، وتمحور تركيزي للإجابة على أربعة أسئلة هي:
• الأول: مَنْ الذي يقبل على الانتحار؟.
• الثاني: ما العلاقة بين التدين والانتحار ؟.
• الثالث: وهل تؤدي الضغوط الاجتماعية فعليًا للانتحار؟.
• الرابع: كيف نكتشف المقبل على الانتحار وما سبل الوقاية له؟.
فوجدت في الرد على التساؤل الأول؛ أن كل شخص من الممكن أن يتعرض للانتحار، لأي سبب طارئ أو كامن، اجتماعي أو شخصي، فنزعت اللوم من تفكيري لإمكانية تعرضنا لمثل ما تعرّض له المنتحر، وحمدت الله على التعافي، وانتبهت إلى أن مرور الواقعة بلا تدبر استسهال من باب اعتياد النعمة، وفنّدت تعليقات القراء حول الواقعةفقلت لنفسي؛ إذا كان الانتحار لمرض فمن يملك أن يمنعه عن نفسه؟، وإذا كان لبعد عن الله فمن منّا معصوم؟، وإذا كان لإهمال من المقربين فمن يضمن ولاءهم؟، وإذا كان لضغط اجتماعي فوق العادة فمن يتحكم في استقرارظروف الحياة؟.
وتوّقفت عند تعليقات بعض القراء الساخرة التي تدور حول؛ (لمّا الأستاذ المتدين الذي يعمل في جامعة الأزهر ينتحر فماذا يفعل غير المتدين؟!)،وهنا فكّرت في التساؤل الثاني ما العلاقة بين التدين والانتحار؟!، فوجدت دراسة لمنظمة الصحة العالمية توضح أن المعتقدات الدينية أو الروحية تساعدك على حماية نفسك من الانتحار، لأن قيم الأديان تتفق على منع قتل النفس وإهلاكها وتحبب الناس في الحياة، وتمنع عنهم عوامل الضرر مثل الخمور والفجور وغيرها، ومع ذلك فإن التطرف في التدين قد يؤدي إلى الانتحار فبعض المتطرفة المغالين تسببوا في انتحار أنفسهم وذويهم بأفكارهم، وقد يشقى العقل بتأويل غير سليم لمعاني الدين فيصاب بالضجر واليأس، وفي نفس الوقت قد تجد هلّاسا محبا للحياه لم يفكر يومًا في الانتحار، فتبرير الانتحار بالبعد عن الله وعدم التدين، يحتاج إلى إعادة نظر لأنّه قد يعجّل بانتحار من فكّر في الانتحار، أو يصيب المقبل على الحياه باليأس فينضم إلى قائمة المنتحرين، ولذلك فالدين حافظ للنفس وداعم اجتماعي يخلق للحياه معنى وهدف ولديه طرق للتعامل مع المشاعر الصعبة، لكن يجب أن نتحرى النصح به.
وورد في ذهني التساؤل الثالث؛ هل تؤدي الضغوط الاجتماعية فعليًا للانتحار؟، تقصيت المعلومة فتبيّن لي من دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عن العوامل الاجتماعية للانتحار في ضوء اعتماد التباين المرتبط بالعمر والحالة الاجتماعية، ليتضح أن الانتحار يزيد مع الخلافات الأسرية ومع حالات الطلاق وفي الأرامل، وأيضًا مع الذين يعيشون بمفردهم في حالة عزلة، ومع الذين لم يتزوجوا وتخطت أعمارهم 35 عامًا، ومع الذين أساءوا استخدام الكحوليات والخمور، ومع الذين يمرون بأزمات وضغوط مالية،وعززت هذه النتائج دراسة لمنظمة الصحة العالمية أوضحت أن المنتحرين من الرجال ضعف المنتحرين من النساء، بما يشير إلى إقبال الرجال على الانتحار أكثر من النساء، وهو أكثر ظهورًا في الأثرياء من الفقراء، بما يرد على ادعاءات الانتحار للفقر فقط، وبالتالي فالضغوط الاجتماعية بأشكالها المتنوّعة قد تؤدي إلى الانتحار مع وجود عوامل أخرى تساعد على الحياة في لحظة فقدان للاتزان والوعي، لأن المنتحر شخص متردد بين الحياه والموت، وليس بالضرورة أن يكون مضطرب نفسيًا لأن السلوك الانتحاري قد يشير إلى التعاسة العميقة.
ومن هنا فكّرت في التساؤل الرابع كيف نكتشف المقبل على الانتحار وما سبل وقايته؟، فوجدت أن الطب النفسي أشار إلى عدد من العلامات ينبغي تداركها من المقربين للشخص منها؛ إذا رأيته يتحدث عن الموت أو الانتحار كثيرًا، أو وجدته فاقد الاهتمام بما كان يحب، أو انسحب من دائرة العلاقات الاجتماعية الأصدقاء والأهل والأحباب، أو أصيب بشدّة الغضب والانفعال على غير العادة، أو يعاني من الصمت الدائم والاكتئاب،أو لديه اضطرابات في النوم، أو قلق وخوف غير طبيعي، إقباله على تعاطي أدوية ومهدءات أو خمور وغيرها، كل هذه علامات تشير إلى خلل في اتزان الشخص قد تؤدي به إلى الانتحار، وهنا يقع العبء على دائرة المقربين في استبصار الواقع والتصرف السليم للوقاية من الانتحار، ولجأت إلى منظمة الصحة العالمية وغيرها لأتعرف على سبل الوقاية فوجدت أنّهم أوصوا بالآتي:
- مجتمعيًا؛ رفع وعي المواطنين بالانتحار، وتعليم التلاميذ في المدارس خطورته، وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية في الأسرة والعمل والمجتمع، وتوفير دعم كامل للأشخاص الذين تظهر عليهم علامات الإقبال على الانتحار، وإعطاء فرصة للفرد المقبل على الانتحار للتفكير بانفتاح لأنّ معظم من يفكرون في الانتحار لا يعلمون مع من يتحدثون.- فرديًا؛ زد من اهتمامك بالشخص الذي تظهر عليه علامات الإقبال على الانتحار، أعد له العلاقات الشخصية القوية بمن يحبهم ولا تيأس، واسمع له دون اصدار أحكام على ما يقوله، ولا تحاول حل مشاكله،وإنما ساعده في إيجاد موارد للحياه، أبلغ المتخصصين بحاله ليساعدوه.
وفي النهاية، فلنترك اللوم والاتهامات، ومعها أيضًا الإهمال والتخطي، ونستمسك بما أرشدنا إليه أهل التخصص للحفاظ على النفس البشرية ووقاية المجتمع من مثل هذه الصدمات، والحمد لله أن مصر من الدول الفقيرة في الانتحار وستظل بإذن الله آمنة مطمئنة، لكن ينبغي أن نرفع الوعي بالانتحار ونتخذ قليلاً من سبل الوقاية والانتباه.