تحدثت في المقال السابق عن بعض السلوكيَّات المفسدة لبيئة الطرق، والتي تضر بالمفسد وغيره، وهي التعرض للمارة بالإيذاء بالقول أو الفعل، وعدم اتباع القواعد المروريَّة، وإلقاء المخلفات وبخاصة الصلبة في عرض الطرق، وأتحدث هنا عن أكبر جريمة ترتكب على الطرق، وهي جريمة قطع الطريق.
فهي من أعظم جرائم الطرق بل والجرائم بصفة عامة في التشريع الإسلامي، وهي تعني التعرض للمارة الذين يعتمدون على حفظ الله لهم في ترحالهم في الطريق، ، فيقطع عليهم قطاع الطرق طريقهم بقصد أخذ ما معهم من مال، وقد يستخدم قطاع الطرق القوة في ذلك لتنفيذ جريمتهم، وتسمى هذه الجريمة في الفقه الإسلامي بجريمة قطع الطريق، أو الإفساد في الأرض، أو الحرابة، والذي سماها بهذه الأسماء ربُّ العالمين من فوق سبع سماوات، وأنزل فيها آيتين في كتابه العزيز اشتملت على هذه الأسماء، وعلى عقوبات مغلظة لم تعرف في غير هذه الجريمة في التشريع الإسلامي، وذلك في قوله U:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}، فهذه الجريمة هي الجريمة الوحيدة التي ورد لها أربع عقوبات في التشريع الإسلامي، وهي: القتل أو الصلب أو قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو النفي بالسجن أو الطرد إلى موضع لا يرغب فيه، وللفقهاء تفصيلات كثيرة في كيفيَّة تطبيق هذه العقوبات، وهل هي على التخيير المطلق، فيكون لولي الأمر معاقبة قاطع الطريق بأي من هذه العقوبات متى ثبت عنده قيام الجاني بقطع الطريق على الناس من غير فرق بين نوع الاعتداء الذي أوقعه على المارة؛ ولذا يجوز له على هذا الرأي صلب قاطع الطريق وهو أشد العقوبات بمجرد إخافته للمارة التي هي من أخف جرائم قطع الطريق، أو يكون ولي الأمر مخيَّرًا في تطبيق هذه العقوبات تخييرًا مقيَّدًا، بمعنى ألا يترتب على هذا التخيير أن يعاقب قاطع الطريق بعقوبة على جريمته أخف من معاقبته على مثل اعتدائه في غير قطع الطريق، فإذا أخاف المارة فقط فللقاضي أن يعاقبه بأي من العقوبات الأربع، وإن أخذ المال الذي مع المار المقطوع عليه طريقه، فالعقوبة قطع اليد والرجل أو القتل أو الصلب، ولا يجوز النفي؛ لأنَّه لو أخذ المال سرقة لقطعت يده، ولو عوقب بالنفي لكان عقابه على أخذ المال حرابة، أو في قطع الطريق وهي جريمة مغلظة أخف من أخذه في الجريمة العاديَّة وهي السرقة، وإن قتل قاطع الطريق المقطوع عليه طريقه، فالخيار بين قتله أو صلبه فقط، ولا يجوز النفي أو قطع اليد والرجل، أو يكون تطبيق العقوبات على الترتيب في مقابل أنواع الاعتداء المتصورة في قطع الطريق، وهي أربعة: إخافة المارة فقط، أو إخافتهم وأخذ ما معهم من مال، أو قتل المارة دون أخذ مال، أو قتل المارة وأخذ ما معهم من مال، ولكل اعتداء من هذه الأربعة عقاب يقابله، فإن قتلوا وأخذوا المال صلبوا، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا بدون صلب، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا المارة فقط نفوا من الأرض، وهو تفصيل لا يتسع له المقام، و الذي يعنينا هنا هو الوقوف على قبح الجريمة، ويكفي للوقوف على ذلك مطالعة الآيتين بتدبر.
وقد أردت بهذا العرض المبيِّن لاتجاهات الفقهاء في معاقبة قطاع الطرق وهو المصطلح الذي ينطبق على الإرهابيين في زماننا، وذلك رغم عدم تطبيق عقوبات الحدود في معظم بلاد المسلمين، لبيان مدى قبح هذه الجريمة النكراء، وبيان أنَّ أجهزة الدولة الأمنيَّة يمكنها استخدام القوة اللازمة لردع هؤلاء الذين يهددون حياة الناس، ويفسدون بيئة طرقهم التي ينبغي أن تكون بيئة آمنة، يسود بين السائرين فيها والمقيمين بالقرب منها الأنس والمودة، ومد يد العون والإغاثة إذا لزم الأمر، وليس ما يرتكبه هؤلاء المجرمون من أبشع الجرائم التي عرفتها شريعتنا، واعتبار الإرهابيين الذين يهددون طرقات الناس ويذهبون أمنهم، ويعتدون على أموالهم ودمائهم وأعراضهم مفسدين في الأرض قطاع للطرق محاربون لله ولرسوله، هو الوصف المناسب الممكِّن لعقابهم بما يستحقون، بخلاف ما يصفهم به بعض الناس حيث يصفهم البعض بالخوارج، وفي هذا الوصف تخفيف عنهم لا يستحقون، فالخوارج هم البغاة ولا يقاتلون مالم يجنحوا هم للقتال، وتوبتهم بعد القبض عليهم تسقط عنهم جرائمهم، بخلاف المحاربين المفسدين، فتوبتهم تقسط الجرائم عنهم متى كانت قبل القبض عليهم لا بعده ، وذلك لقوله – تعالى - :{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ؛ ولذا فإنه يجوز قتالهم متى رأت جهات الأمن خطورتهم، فإذا قُبِضَ عليهم فلا تسقط عقوباتهم عند القاضي بل يعاقبون على ما اقترفوه من جرائم حتى لو أعلنوا التوبة والندم، كما إنَّ وصف البعض لهم بالكفار فيه تخفيف أكبر من وصفهم بالخوارج، فالكفار إن أعلنوا التوبة عند القاضي ولو كان ذلك بعد ارتكابهم لأبشع الجرائم، لزم القاضي أن يحكم ببراءتهم، وإسقاط جميع الجرائم التي ارتكبوها؛ لأنَّ الإسلام يجب ما قبله، وقد يستخدمون إعلان التوبة حيلة للإفلات من العقاب، فمتى حكمنا بكفرهم أمكنهم قبل أن يحكم عليهم القاضي القول بأنهم يعلنون توبتهم ورجوعهم للإسلام، ويقولون بأنهم ارتكبوا هذه الجرائم وهم كفار، وهم الآن يعلنون التوبة، بعد أن هددوا أمن المجتمع ونالوا من دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم؛ ولذا كان وصفهم بالمفسدين في الأرض هو الوصف المناسب الممكِّن من ردعهم بما يناسب جرائمهم، ولو كان بقتلهم إذا كانوا لا يرتدعون بغيره....وللحديث بقية بإذن الله***