ads
الإثنين 25 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

التفكر عبادة أجرها عظيم وفضلها كبير، وجه إليها القرآن الكريم ودعت إليها السنة النبوية المطهرة , وحافظ عليها المسلمون كثيرا  رعاية وتربية وممارسة ،  فكانت سببا في نهضتهم وتحقيق السبق الحضاري لهم في كافة المجالات والميادين , وكان منهم روادا في علوم شتى منها : الجبر ( الخوارزمي ، و ...... ) ، والكيمياء ( جابر بن حيان ، و....... ) والطب ( ابن سينا ، وابن النفيس ,و....... ) والصيدلة ( ابن البيطار ،و..... ) و البصريات ( ابن الهيثم  ،و.......) والاجتماع ( ابن خلدون ،و...... )  والجغرافيا ( الإدريسي  ،و......) و الفقه والشريعة ( الأئمة الأربعة : مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ، و.....) والحديث ( البخاري , ومسلم و.......) وغيرهم كثير ممن يصعب حصرهم  في الفيزياء والكيمياء والأدب والتاريخ .وغير ذلك من المجالات والميادين ، التي تؤكد على عبقرية المسلمين وقدراتهم الإبداعية بعيدا عن الجمود والتقليد الأعمى .
ولم تقتصر إبداعات المسلمين على الماضي ، ففي واقعنا المعاصر يشهد العالم بإنجازات عظيمة في مجالات شتى  للعديد من العلماء المسلمين  الذين التزموا بقواعد المنهج العلمي وأصوله وأدواته ، واتخذوا من التفكر سلاحا للرقي والتقدم .
إن التفكر  عبادة يوجبها الدين ، ويكافيء عليها الخالق سبحانه وتعالى .
وتسعد بها الحياة ، وترقى بها البشرية .
وفي السطور الآتية : أعرض لبعض الجوانب المتعلقة بعبادة التفكر على النحو الآتي  : 
 أولا : فضل عبادة التفكر للدين والدنيا .
ثانيا : ضرورة إدراك المربين من الٱباء والأمهات  والمعلمين والدعاة وجميع المؤسسات التربوية   لأهمية عبادة  التفكر  ، والقيام بحقها تجاه أولادنا وشبابنا .
ثالثا: أهمية عبادة التفكر في تعريف أولادنا بالخالق  سبحانه وتعالى وترغيبهم في عبادته عز وجل على الوجه الأكمل  .
رابعا : أساليب عملية لتربية الأولاد على عبادة التفكر .
وبمشيئة الله تعالى أعرض لها في سلسلة عبر منشورات قادمة -  حرصا على القاريء الكريم من الملل -  .
أولا : فضل عبادة التفكر 
من أهم فوائد عبادة التفكر ما يلي :
1- التفكر هو بداية الطريق لمعرفة الله تعالى 
يقول سبحانه " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعل جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" آل عمران 90-91 . 
ويكفي أن نعرف أنه لما نزلت هذه الآيات  بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاء شديدا ،  فلما سأله الصحابة عن بكائه صلى الله عليه وسلم ،  قال : " نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يعيها ".
ويقول سبحانه " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " فصلت :53  فالتفكر يشعر الإنسان بعظيم خلق الله وإعجاز صنعه سبحانه وتعالى ، حيث التأمل في السماء وكيف رفعت بغير عمد ؟ ، والجبال وكيف نصبت ؟  والأرض وكيف سطحت ؟  ، والسماء وكيف زينت  ؟ 
والقرآن الكريم يربينا على التفكر بتساؤلات تدعو إلى حسن إمعان النظر ، والتأمل في ملكوته سبحانه وتعالى ؛ لتكون الإجابة ناطقة بأن الكون خير شاهد وأكبر دليل على قدرة الخالق وعظمته سبحانه وتعالى ، وأن له  في كل شيء آية تدل على أنه الواحد .
يقول عز وجل : " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت  وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت "  الغاشية :17- 20.
وهكذا تكون قيمة الأسئلة المثيرة للتفكر والتأمل ؛ لتكون التربية بالإقناع وحضور الدليل،  بدلا من صب المعلومات صبا وحشو الأذهان حشوا دون تأمل او بينة واستبصار .
يدعونا القرآن الكريم إلى رؤية إبداع الخالق سبحانه وتعالى في السموات والأرض ، وهنا  مع حضور التربية الإيمانية ، تتحقق التربية العقلية ، وتستلهم التربية الجمالية لأولادنا بالتربية على حسن النظر ، وإدراك العلاقات واستبصار الصورة الجمالية للكون من حولنا ، فيرقى الإحساس وتهذب  المشاعر ، ويرقى الوجدان ،  ويرهف الحس ، يقول سبحانه " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " الصافات: 6  ويقول تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " الكهف : 7 
عندها تمتلئ النفس جمالا وتشرق بهاءً ،
فترى طلاقة القدرة في كل شيء وهي تردد في انسجام  واطمئنان أبيات معروف الرصافي  :
انظر لتلك الشجرة  ذات الغصون النضرة 
كيف نمت من حبة ..  وكيف صارت شجرة 
فانظر وقل من ذا      الذي يخرج منها الثمرة 
ذلك هو الله الذي       أنعمه منهمرة 
ذو حكمة بالغة           وقدرة مقتدرة .
انظر إلى الشمس     التي جذوتها مستعرة  
فيها ضياء وبها            حرارة منتشرة  
من ذا الذي أوجدها   في الجو مثل الشررة 
انظر إلى الليل    فمن أوجد فيه قمره
من زانه  بأنجم          كالدر المنتثرة  
ذاك هو الله الذي           أنعمه منهمرة  
ذو حكمة بالغة            وقدرة مقتدرة 
انظر إلى المرء        وقل من شق فيه بصره  
من ذا الذي جهزه       بقدرة مبتكرة  
ذاك هو الله الذي        أنعمه منهمرة  
ذو حكمة بالغة       وقدرة مقتدرة  
 
2-  التفكر من أسمى العبادات ولذلك قال  سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه  " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " وقال سيدنا  عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه  " التأمل في نعم الله أفضل عبادة "
3- التفكر منهج الأنبياء :
فسيدنا ابراهيم عليه السلام وصل إلى معرفة الخالق سبحانه وتعالى بالتفكر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض يقول تعالى " وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين . فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لاأحب الأفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " الأنعام : 75- 79
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبب إليه الخلاء فكان  يخلو بغار حراء يتحنث( يتعبد )  فيه الليالي ذوات العدد . 
4- إهمال التفكر وتعطيل العقل يفقد الإنسان إنسانيته , ويضر بدنياه وأخراه  قال تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل ...." الأعراف : 179
ويقول تعالى " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " الفرقان : 44 
5- التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى  يمنع من معصيته وقيل : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ماعصوه "
6-  التفكر طريق لتحصيل العلم  واستجلاب المعرفة ،واكتشاف العديد من أسرر الكون والنفس . يقول تعالى " وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون " الذاريات 20-21 ولما سئل الإمام علي رضي الله عنه : كيف عرفت ربك ؟ قال : عرفت ربي بربي ( أي من خلال آيات ربي ) وعرفت مراد ربي بمحمد صلى الله عليه وسلم .
7- التفكر علاج نفسي : عندما يخلو الإنسان بنفسه يتأمل عالمه الداخلي يتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها ؛ فإن ذلك يزيده صفاء وراحة نفسية .
8- التفكر يجنب الإنسان آفات اللسان وعثراته، ويبعد الإنسان عن الرياء .

أسأله سبحانه وتعالى الإخلاص والتوفيق والقبول .
ونكمل إن شاء الله في منشورات قادمة .

**أستاذ أصول التربية - جامعة الأزهر**

تم نسخ الرابط