من أشد الأمور قسوة على النفس، وأوجعها ألما أن يعيش الباحث مع أستاذه الذي يشرف عليه ردحا من الزمن لا يقل عن سنتين، والأستاذ فيها يوجه ويرشد ويتابع، ليخرج البحث على أفضل صورة يرجوها معتقدا أن الباحث واحد من أبنائه، والباحث في كل ذلك الوقت في طاعة تامة لأستاذه يستمع إليه، ويستجيب لنصائحه، ويحوم حوله في كل مكان يرجو خدمته، ويضع نفسه تحت إشارته، عارضا خدماته في كل شيء، ثم ما يلبث أن تنتهي الرسالة وتتم المناقشة فإذ بالباحث الوديع يتحول من النقيض إلى النقيض فيسئ إلى أستاذه بكل ما وسعه الجهد من إساءات، وينشر عنه الإشاعات، وأحيانا تصل الإساءة إلى حد التلاسن، ومبرره الوحيد في ذلك أنه كان معه قاسيا عنيفا، وأظنها أنها في حقيقتها ليست قسوة ولا عنفا، وإنما هو حزم وحسم تتطلبه مسيرة البحث، ومن باب (قسا ليزدجروا)، وكم تعرضنا في حياتنا العملية من أساتذتنا لمثل ما تعرضوا له بل أشد وأقسى، ولكننا كنا نرى من عيونهم ومعاملتهم أنهم يفعلون ذلك ليرونا في أحسن صورة، وأفضل مكانة علمية، ولكن كثيرا من أبنائنا في هذه الأجيال استطعموا الراحة، ويرون أن البحث العلمي رحلة ترفيهية بين المواقع الإلكترونية التي يعتمدون عليها اعتمادا شبه كلي في كتابة بحوثهم، وإذا وجهته لضرورة القراءة في المصادر والمراجع امتعض واكتأب وشكا لك ضعف حاله، وعظيم مسئولياته، وأنه لا وقت عنده للذهاب للمكتبات فالمكتبة الرقمية تكفيه وأتذكر في هذا السياق زمنا كنت آخذ معي وجبة (الغدا) وأنا ذاهب إلى دار الكتب من الساعة الثامنة صباحا إلى السادسة مساء لجمع المادة العلمية من بطون الكتب والدوريات، ثم أعود آخر النهار لأنصف وأرتب ما كتبت.
ومع ذلك كان للتعب لذة، وللمشاق متعة بعدما نكتب البحث ونناقش الرسالة، وبعدها يزداد حبنا وتقديرنا لأساتذتنا الذين أتعبونا وأرهقونا ليصنعوا منا علماء.
طاب مقامهم في عليين، وهدى الله أبناءنا الباحثين إلى الطريق القويم .
ملحوظة مهمة.
ما ذكرته لم يحدث معي مع أي واحد من الباحثين، فكل طلابي مثاليون، ولكنها شكوى سمعتها من كثير من الأساتذة، فأردت أن أنبه إلى خطورة هذا الأمر.