ads
الأحد 24 نوفمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

استقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التشريعية

المستشار دكتور عبد
المستشار دكتور عبد العزيز سالمان

إذا كانت حقوق الإنسان أصبحت مبدأ عالمياً مدونًا فى جميع دساتير العالم، فإن ذلك المبدأ يظل حبرًا على ورق ما لم توجد سلطة قوية مستقلة لحراسته، وحمايته حال الاعتداء عليه، وإذا كان التقدم الاقتصادى واستثمار رؤوس الأموال العالمية والمحلية لا يتم إلا فى ظل الاستقرار السياسى، فإن الاستقرار السياسى لا يتحقق إلا فى ظل قضاء قوى مستقل نزيه.. بهذه الكلمات كان البحث القيم الذي قدمه المستشار دكتور عبد العزيز محمد سالمان نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، فى مجلـــــــة دراسات في حقوق الإنسان التي تصدرها الهيئة العامة للاستعلامات والذي حمل عنوان "استقلال القضاء.. حق من حقوق الإنسان.. وأهم ضماناتها.

 

استقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التشريعية (1)

العلاقة التى تحكم البرلمان بالقضاء هى علاقة استقلال عضوى ووظيفى، تحول دون تدخل البرلمان فى أعمال السلطة القضائية ، سواء من حيث التدخل فى أحكام القضاء ذاتها، أو التدخل فى تنظيمه ، أو التدخل فى حق التقاضى .

وقد استقر الفقه على أنه لا يجوز للسلطة التشريعية التدخل فيما يكون القضاء قد حسمه من منازعات ، أو من التدخل فى وظيفة القضاء بما هو أقل من ذلك شأنًا مثل نقد حكم قضائى ، أو التعرض لقضية مطروحة على القضاء.

وقد قطع الأستاذان " اسمان" و "نيزار" بأنهما يعتبران مساسًا بمبدأ الفصل بين السلطات أن يصدر من البرلمان قانون يلغى حكمًا نهائيًا صادرًا عن السلطة القضائية .

ومبدأ الفصل بين السلطات لا يوجب على السلطة التشريعية أن تحترم أحكام القضاء فقط ، بل يتجاوز ذلك ليمنع المشرع أن ينتقد حكمًا أو يجعله موضوعًا لمناقشة داخل البرلمان ، أو أحد لجانه ، ومن باب أولى يمتنع عليه أن يلغى أو يعدل حكمًا قضائيًا . وإذا كانت وظيفة القاضى تنحصر فى حسم المنازعات بتطبيق القانون ، فليس من حق المشرع أبدًا أن يفحص ما إذا كان القاضى قد فسر قانونًا ما تفسيرًا صحيحًا أو خاطئًا ، فهذا هو الدور الذى تضطلع به المحاكم الأعلى فى النظام القضائى ، سواء كنا فى مجال القضاء العادى أو فى مجال القضاء الإدارى . ولا يجوز أن ينقلب البرلمان إلى محكمة نقض عليا(1).

ويمتنع على المشرع أيضًا التدخل بتعطيل حكم قضائى أو المساس بطريقة أداء القاضى لوظيفته إنما يجب صد المشرع عن التدخل فى تنظيم القضاء إذا كان القصد منه النيل من استقلاله أو الاعتداء عليه . ويجب بوجه خاص أن يحتاط القضاء من تحايل المشرع تحايلاً يؤدى إلى إهدار استقلال القضاء عن طريق ما يسمى بإعادة تنظيم بعض جهات القضاء(2).

وإذا كانت الدساتير المعاصرة تبيح للمشرع الحق فى تنظيم القضاء ، فإنه لا يجوز له التدخل تحت ستار التنظيم أن ينتقص من الولاية القضائية سواء لقاض بذاته أو للسلطة القضائية فى مجملها.

فلا يحق له إلغاء بعض المحاكم أو إبعاد بعض القضايا عن أن تنظرها محكمة معينة ، أو أن يعدل فى الأغلبية اللازمة لإصدار الأحكام ، أو محاولته النيل من الأحكام القضائية ، أو تقويض تنفيذها بوسائل مختلفة .

ومن المهم أن نشير إلى أن المحكمة الدستورية العليا المصرية قد اتخذت موقفًا حاسمًا من تدخل المشرع فى أعمال السلطة القضائية ، ولو كان تدخله بطريقة مستترة وغير محسوسة فأبطلت التشريعات التى تدخل بموجبها المشرع فى أعمال القاضى ، وفى تفعيل سلطته التقديرية أو عرقلة تنفيذ الأحكام القضائية .

ونعرض لجانب من النصوص التشريعية التى أهدرتها المحكمة الدستورية العليا ، لأن المشرع تدخل بها – على نحو أو آخر – فى عمل السلطة القضائية وذلك على النحو الآتى :

 

أولاً : التدخل فى السلطة التقديرية للقاضى الجنائى :

يتصل تطبيق القانون الجنائى بالحرية الشخصية ، تلك الحرية التى لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها . ذلك أن الحرية وثيقة الصلة بالحق فى الحياة ، وكل قيد على هذه الحرية يتخذ شكل الجزاء الجنائى ، يتمخض عقابًا مقتضيًا إخضاع هذا الجزاء لأكثر صور الرقابة القضائية على الدستورية حدة ، بما يؤدى إلى أن يكون الجزاء متناسبًا مع الجرم المقترف ، ولكل حالة على حدة ، ومن هنا تأتى أهمية السلطة التقديرية للقاضى فى إنزال الجزاء الجنائى لكل واقعة على حدة ، أى أن العقاب يجب أن يكون مفردًا بالنسبة لكل متهم ، وهو ما يسمى بمبدأ " تفريد العقاب" . هذا المبدأ يقضى بأن لكل جريمة ظروف معينة ينبغى مراعاتها ، لكل مجرم حالة يجب مراعاتها ، هذه الحالة نتاج لعوامل نفسية واجتماعية وبيولوجية .

وإذا كان مراعاة" التفريد " واجبًا على القاضى ، فإنه واجب أيضًا على المشرع ، لكن هل المشرع أيضًا يتولى " التفريد العقابى "؟

الإجابة على ذلك بالنفى ، وإنما دور المشرع يتمثل فى وضعه لتشريعات تتضمن مقاييس عامة فى بعض الجرائم ومقاييس خاصة ، يتمكن من خلالها القاضى أن يقوم بتفريد العقاب.

لكن يثار تساؤل عن مدى إمكانية وضع تشريعات تحد من سلطة القاضى فى تفريد العقوبة لبعض الجرائم ، نظرًا لخطورتها ، أو لأى سبب آخر .

وقد أجابت المحكمة الدستورية العليا عن ذلك بأنه لا يجوز على الإطلاق أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بمحيطها ضمانًا لموضوعية تطبيقها ، فلا يكون إنفاذها دالاً على قسوتها جامدًا ، فجاء منافيًا لقيم الحق والعدل ومؤكدًا شذوذها ، أو مجاوزتها حدود الاعتدال التى ينبغى معها أن يكون للقاضى الكلمة الأخيرة فى شأن إيقافها ، فلا يكون تجريده من هذا الاختصاص إلا عدوانًا على الوظيفة القضائية بما يخل بمقوماتها.

ففى حكمها الصادر فى القضية رقم 130 لسنة 18 قضائية "دستورية" بجلسة 1/9/1997.

"وحيث إن السلطة التى يباشرها القاضى فى مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها ؛ وكان التفريد لاينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها فى ذلك شأن القواعد القانونية جميعها، وكان إنزالها "بنصها" على الواقعة الإجرامية محل التداعى، ينافى ملاءمتها لكل أحوالها ومتغيراتها وملابساتها؛ فإن سلطة تفريد العقوبة - ويندرج تحتها الأمر بإيقافها - هى التى تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل بها اتصال قرار .

وحيث إن من الثابت كذلك، أن تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتبارها أثقل على الفقراء منها على الأغنياء ؛ وكان فرض تناسبها فى شأن جريمة بذاتها، إنصافا لواقعها وحال مرتكبها يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل القاضى – وفق أسس موضوعية – بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها، وكان المشرع قد سلب القاضى هذه السلطة بالفقرة الرابعة من المادة (154) المطعون عليها فإنه بذلك يكون قد أخل بخصائص الوظيفة القضائية التى تناسبها، وقوامها فى شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية، تقدير العقوبة التى تناسبها، باعتبار أن ذلك يعد مفترضا أوليًا  متطلبًا دستوريًا لصون موضوعية تطبيقها .

وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لايجوز للدولة – فى مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صونا لنظامها الاجتماعى – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التى لايطمئن المتهم فى غيابها إلى محاكمة تتم إنصافًا، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقا لمتطلباتها التى بينتها المادة (67) من الدستور؛ وكان من المقرر أن " شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها " مرتبطتان " بمن يكون قانونًا مسئولاً عنها ارتكابها " على ضوء دوره فيها، ونواياه التى قارنتها، ومانجم عنها من ضرر ليكون الجزاء عنها موافقًا لخياراته بشأنها . متى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً فى إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائيــــــــة باعتبـــــــاره مــــــن مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم فى مجال تفريد العقوبة بما يوائم "بين الصيغة التى أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها فى حالة بذاتها" مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلاتنبض بالحياة، ولايكون إنفاذها "إلا عملا مجردًا يعزلها عن بيئتها" دالاً على قسوتها أو مجاوزاتها حد الاعتدال، جامدًا فجًا منافيًا لقيم الحق والعدل .

 

ثانيًا : افتراض قرائن لإثبات بعض الجرائم :

فى هذه الحالة، لايتدخل المشرع بصورة مباشرة فى السلطة التقديرية للقاضى الجنائى ، وإنما يعمد فى بعض الجرائم إلى نقل عبء الإثبات ليقع على عاتق المتهم متجاوزًا افتراض البراءة .

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على أن هذا التدخل يخالف الدستور، ومن ذلك قولها إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، أو تفويض السلطة التنفيذية في إصدارها في الحدود التي بينها الدستور ، لايخول أيتهما التدخل في أعمال أسندها الدستور إلي السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا علي ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات.

    وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقًا مكتملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة علنية ، ومنصفة ، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة ، تتولي الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية ، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه.  وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولي حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية ، في أن تفترض براءته إلي أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه .

وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة آنفة البيان عند فصلها في الاتهام الجنائي، تحقيقا لمفاهيم العدالة حتي في أكثر الجرائم خطورة ، لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التي كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية  التي لا يترخص أحد في التقيد بها ،   والنزول عليها . وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها ، وليس بنوع العقوبة المقررة لها،  وينسحب إلي الدعوي الجنائية في جميع مراحلها، وعلي امتداد إجراءاتها،   فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة ،وتتكون من جماعها عقيدتها.

     ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها،   وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخري مفهومًا محددًا لدليل بعينه،  وأن يكون مرد الأمر دائما إلي ما استخلصته هي من وقائع الدعوي، وحصلته من أوراقها ، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.

    وحيث إنه علي ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح، يتوخي بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية،ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها. وذلك انطلاقًا من إيمان الآمم المتحضرة بحرمـة الحياة الخاصة ، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته،  أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته علي ضوئها ، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائيـــــــة إدارة فعالــــــــة . بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدني من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها .  وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوي الجنائية – وعلي امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة علي محصلتها النهائية ،  ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة،وتوجبها حقائق الأشياء،   وهي بعـد قاعدة حرص الدستور علي إبرازها في المادة (67) مؤكدًا بمضمونها ما قررته المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان علي ما سلف بيانه،  والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان.

وحيث إنه فضلاً عما تقدم،  فإن الجريمة محل الاتهام من الجرائم العمدية،التي يتعين أن يكون الدليل علي توافر عناصرها جميعها يقينيًا لاظنيًا أو افتراضيًا،  وكان الاختصاص المقرر دستوريًا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقدير عقوباتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد محكمة الموضوع عن القيام بمهمتها الأصيلة في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكان الأصل في القرائن القانونية – قاطعة كانت أم غير قاطعة – هو أنها من عمل المشرع، إذ يحدد مضمونها علي ضوء ما يكون في  تقديره معبرًا عما يقع غالبًا في الحياة العملية وكانت القرينة القانونية التي أنشأها النص المطعون فيه – حتي بافتراض جواز الاحتجاج بالقرائن القانونية في المجال الجنائي – لاتعتبر كذلك ،  ذلك أن الأصل في الذبائح هو خلوها من  أمراضها أو مما يخرجها بوجه عام عن طبيعتها . والأمر العارض هو انتفاء سلامتها وتعييبها ولا يكون ذلك إلا بالوسائل العلمية وحدها يباشرها أهل الخبرة والمتخصصون  . وما ذلك إلاحملاً علي قاعدة أصوليه ثابتة مفادها أن الأصل في الصفات العارضة العدم .   وقد نقض المشرع بالقرينة التي أحدثها ما يفترض أصلاً في الذبائح ،   وهو صلاحية استهلاكها آدميًا .   وكان يجب علي النيابة العامة – وهي تدعي خلاف الأصل – أن تقيم الدليل على ادعائها ،  إلا أن النص المطعون فيه أعفاها من التزامها هذا ،   وأحلها كذلك من التدليل علي توافر القصد الجنائي في الجريمة محل الاتهام،   منحيًا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيق أركانها،   وهو ما يعد انتحالاً تشريعيًا لاختصاص مخول للسلطة القضائية ،  وإهدارًا لافتراض البراءة من التهمة التي نسبتها النيابة العامة إلي المتهم في كل وقائعها وعناصرها . وإخلالاً بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقًا طبيعيًا لكل إنسان(1) .

 ثالثًا : عرقلـــــة تنفيـــــــذ الأحكـــــــام القضائيــــــة :

قد يحدث أن يقيم المشرع بعض العراقيل أمام الترضية النهائية ، سواء من ناحية اقتضائها ، أو تقديمها متراخية دون مبرر أو إحاطتها بقواعد إجرائية معيبة ، وقد لا يكون قصد المشرع ابتداء هو عرقلة الترضية النهائية أو تعقيد إجراءاتها ، ولكن العبرة فى الدستورية أو عدم الدستورية هو مآل الإجراء الذى يقرره المشرع ، فإن كان يؤدى إلى عرقلة تنفيذ الأحكام فإنه يتعين تنحيته . وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على ذلك فى أكثر من موضع نعرض لحكم من أهم أحكامها فى هذا الشأن ، حيث أكدت:" متى كان ما تقدم، وكان حق التقاضى لا تكتمل مقوماته ما لم توفر الدولة للخصومة فى نهاية مطافها حلاً منصفًا يمثل التسوية التى يعمد من يطلبها إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التى يسعى إليها لمواجهة الإخلال بالحقوق التى يدعيها، وكانت هذه الترضية– وبافتراض مشروعيتها واتساقها مع أحكام الدستور– تندمج فى الحق فى التقاضى باعتبارها الحلقة الأخيرة فيه، ولارتباطها بالغاية النهائية المقصودة منه برابطة وثيقة، ذلك أن الخصومة القضائية لاتقام للدفاع عن مصلحة نظرية لاتتمحض عنها فائدة عملية، وإنما غايتها اقتضاء منفعة يقرها القانون، وتتحدد على ضوئها حقيقة المسألة المتنازع عليها بين أطرافها وحكم القانون بشأنها. واندماج هذه الترضية فى الحق فى التقاضى، مؤداه أنها تعتبر من مكوناته، ولا سبيل لفصلها عنه، وإلا فقد هذا الحق مغزاه، وآل سرابًا.

وحيث إن إنكار الحق فى الترضية القضائية سواء بمنعها ابتداء، أو بإقامة العراقيل فى وجه اقتضائها، أو بتقديمها متباطئة متراخية دون مسوغ، أو بإحاطتها بقواعد إجرائية معيبة، لا يعدو أن يكون إهداراً للحماية التى يفرضها الدستور والقانون للحقوق التى وقع العدوان عليها، وإنكاراً للعدالة فى جوهر خصائصها وأدق توجهاتها، وبوجه خاص كلما كان طريق الطعن القضائي لرد الأمور إلى نصابها ممتنعا أو غير منتج، وكان من المقرر أنه ليس لازمًا لإنكار العدالة وإهدار متطلباتها أن يقع العدوان على موجباتها من جهة القضاء ذاتها، ذلك أن السلطة التشريعية أو التنفيذية قد تفرض من العوائق ما يحول دون بلوغ الترضية القضائية، سواء عن طريق حرمان الشخص من إقامة دعواه، أو من نظرها فى إطار من القواعد الموضوعية، وفق الوسائل القانونية السليمة، ومن ثم لايعتبر إنكار العدالة قائما فى محتواه على الخطأ فى تطبيق القانون، وإنما هو الإخفاق فى تقديم الترضية القضائية الملائمة، وهو ما يتحقق بوجه خاص إذا كانت الوسائل القضائية المتاحة لا توفر لمن استنفدها الحماية اللازمة لصون حقوقه، أو كانت ملاحقته لخصمه للحصول على الترضية القضائية التى يأملها، لاطائل من ورائها. وبغير اقتران الترضية القضائية بوسائل تنفيذها وحمل الملزمين بها علي الرضوخ لها، فإن هذه الترضية تغدو هباء منثوراً، وتفقد قيمتها من الناحية العملية، وهو ما يفيد بالضرورة إهدار الحماية التى فرضها الدستور والمشرع– كلاهما– للحقوق على اختلافها، وتكريس العدوان عليها وتعطيل دور القضاء المنصوص عليه فى المادة (65) من الدستور فى مجال صونها والدفاع عنها وإفراغ حق اللجوء إليه من كل مضمون، وهو حق عنى الدستور بتوكيده فى المادة (68).

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان الحكم الصادر بالطرد من القضاء المستعجل مشمولاً بالنفاذ المعجل، وكان المؤجر يعتبر بمقتضى هذا الحكم متمتعا بحق ظاهر أضفى عليه المشرع حماية خاصة تبيح له اقتضاءه قبل أن يستقر بصفة نهائية، وكان الحق فى التقاضى المنصوص عليه فى المادة (68) من الدستور لا تكتمل حلقاته إذا أعاق المشرع هذا التنفيذ من خلال تعليق صحته على مثول المستأجر بشخصه أثناء إجرائه، مثلما هو الأمر فى النزاع الراهن، وكان النص المطعون فيه بمايؤدى إليه من بطلان كل تنفيذ تم فى غيبة مستأجر العين،–  وقد عطل إعمال الآثار القانونية لحكم الطرد، جاعلا تنفيذه رهنا بإرادة المستأجر–  فإنه بذلك يكون قد نقض أصل الحق فى التقاضى وعطل الأغراض التى يتوخاها، وأعاق وصول الترضية القضائية التى كفلها حكم الطرد  لأصحابها، ومايز فى مجال تنفيذ الأحكام القضائية– دون مسوغ مشروع– بين المستأجرين وغيرهم الذين يصح التنفيذ قبلهم بمجرد إعلان سند التنفيذ لشخص المدين أو فى موطنه على ما تنص عليه المادة (281) من قانــــــون المرافعـــــــات؛ ومـــــــن ثم فإن النص المطعون فيه  يكون مناقضًا لأحكام المواد (34 و40 و 65 و 68 و 72 و 165 )من الدستور" (1).
 


(1)  يراجع بوجه عام : المستشار الدكتور عبدالعزيز سالمان ، بحث بعنوان " القضاء الضمانة الأساسية لانتخابات حرة نزيهة مقدم إلى المؤتمر الدولى عن سلطات القاضى الإدارى فى الفصل فى المنازعات الانتخابية الذى عقده الاتحاد العربى للقضاء الإدارى، القاهرة يومى  8 ، 9 يناير سنة 2018  .

د. أحمد فتحى سرور: استقلال القضاء حق من حقوق الإنسان فى القانون المصرى ، بحث بمجلة القانون والاقتصاد السنة الخمسون ص 109 وما بعدها ، د. محمد كامل عبيد : استقلال القضاء سنة 1991 ، طبعة نادى القضاة.

(1) الدكتور محمد عصفور ، " استقلال السلطة القضائية " ، كتاب منشور بمجلة القضاة ، 1969 ، الصفحة رقم 397.

(2) الدكتور / محمد عصفور ، المرجع السابق ، الصفحة  403.

(1) الحكم فى الدعوى رقم 5 لسنة 15 قضائية "دستورية" – جلسة 20/5/1995.

(1) الحكم فى الدعوى رقم 81 لسنة 19 ق دستورية – جلسة 6/2/1999.        

تم نسخ الرابط