لا يزال الحديث موصولاً بتداعيات الطوفان وهو يرسل العبر والعظات للعالم بأسره يوماً بعد يوم ، أكبر اليقين عندي أن عملية طوفان الاقصى ستبقى معجزة محفورة في ذاكرة التاريخ لاتزال تسطرها سواعد المقاومة ببسالة وإقتدار ، وستخلد أحداثها بطون الكتب، وتتعاظم دراستها بين العلوم العسكرية في كلياتها وأكاديمياتها الرفيعة ، ولعل المتأمل لميثاق حماس الصادر في أغسطس عام ١٩٨٨ الذي نص على أنه" لا حل للقضية الفلسطينية إلا من خلال الجهاد وهو السبيل الأوحد ضد الإحتلال حتى التحرير وإستعادة الأراضي المغتصبة، وإن المبادرات والمؤتمرات مساعى عبثية ومضيعة للوقت" يدرك أن عملية الطوفان لم تكن وليدة عجلة من أمرها ، أو ثورة طارئة ألجأتها إليها مشاعر الغضب تجاه إستفزازات المستوطنين وجنود الإحتلال ، ولكنها كانت نتاج جهد كبير متواصل وإيمان راسخ ، توجته بخطة عسكرية متكاملة من إعداد وتخطيط وتكتيك إستراتيجي وإستخباراتي بالغ الدقة والأداء وساعة الصفر فيها محددة ، أظن بأنها تفوقت فيه على الجيوش النظامية، وأزعم أنه يتطابق كثيراً مع حرب أكتوبر المجيدة عام ١٩٧٣ .
الشاهد في رحلة المقاومة منذ ناشئة إنتفاضتها الأولى علي يد مؤسسها الشيخ احمد ياسين - رحمه الله - المعروفة " برماة الحجارة " ، يعلم أن هذا الجيل من رجال المقاومة التمس سيرة أكابر الصحابة رضوان الله عليهم ، وكلهم ملتمس من رسولنا الاكرم صلى الله عليه وسلم ، فعكفت على نفسها طويلاً بالجد والمثابرة تستلهم منهج عقيدتها الجهادية في قوله تعالى " وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ " لتصنع ترسانة أسلحتها من الصفر وبالمستحيل وهي تحت الحصار ، فوق أن تحركاتها وسكناتها تقع في مرمى تقنية التجسس التي نشرها العدو على تخوم القطاع ، وهنا تكمن العظمة المختلطة بالدهشة والإنبهار ، فلم تركن المقاومة إلي ضعف الحيلة وقلة المورد وطول الحصار تنتظر السماء أن تمطر عليها ذهباً أو فضة ،ولكنها أخذت على كاهلها بالأسباب في حدود المتاح لديها بعزائم رجال من أصحاب الهمم العالية لايعرفون النوم أو الكسل ، حتي وصلوا إلي ترسانة من السلاح والعتاد كانت مثار دهشة العالم ، وقد طالت صواريخها العمق المحتل وجعلت قادته يقطعون الإجتماعات ويفزعون إلي الملاجئ والأقبية في سابقة لم يعهدها الإسرائيليون في كل حروبهم ضد جيوش العرب . في قناعتي أن ما يكشف سر عظمة وصمود هذا الجيل من رجال المقاومة في نضاله ضد الإحتلال حتي أمضى في بناء ترسانته العظيمة من الحجارة إلي الصاروخ في وقت قياسي بهذه الإمكانات المادية المتواضعة وهذا المناخ الأمني المتوتر ، إنما يكمن خلفه أمر عظيم وهو أنهم جيلاً قرآنياً ، كان تلقيهم للقرآن ( تلقي للتنفيذ ) لا للقراءة والتعبد فحسب ، إنما يتلقوا أمر من الله في خاصتهم وشأن الجماعة التي يعيشوا فيها ليعملوا به فور سماعه ، وهذا كان ديدن الصحابة رضي الله عنهم ، فشعروا بأنهم مع الملأ الأعلى في رحاب الله ومعيته ، من هنا جاء اليقين بنصر الله عز وجل لتطمئن القلوب ، والجوارج تعمل وتجتهد ، فأخذوا زمام المبادأة عملاً بالأسباب وتوكلوا على الله حق توكله ، وكان الطوفان كالشلال الهادر ، فجعلوا جيش الاحتلال بكل جبروته المدعوم بهذا الخصم الأمريكي والأوروبي يقفون علي قدم وساق ، إن عملية طوفان الاقصى فاقت نتائجها كل حروب العرب ضد الإحتلال علي مر العقود الماضية ، ولايزال يقيني راسخاً بأن عملية الطوفان ليست آخر المعارك بل هي بداية النهاية للكيان الغاصب : " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا " .