أنا .. و جدتي و الشيخ سعد
كان من عادات الزمن الماضي الجميل التي هجرت بيوتنا وأخذت معها حظًا كبيرًا من الخير، أن كان لكل حارة وزقاق شيخ يقرأ القرآن الكريم في كل بيت من بيوت هذا الحي، وكان من نصيب حارتنا الشيخ سعد - رحمه الله - كان رجلًا وقورًا حافظًا لكتاب الله يتمتع بخفة ظل وطرفة رقيقة وكان كفيف البصر نافذ البصيرة ، ولا زلت أذكر تلك الأيام – التي كنت أعتبرها أنا وجيلي من الصبية حينذاك عيدًا صغيرًا - حينما كانت تعتلي جدتي سطح المنزل لتعد لنا خبيز الأسرة - وذكرياتي مع هذه الأيام لاتغيب عن مخيلتي -لطالما كنت أحتال عليها مستبيحًا عطفها أتظاهر بالجوع فتصنع لي رغيفآ ساخنًا وتملؤه بالسمن البلدي والسكر، وتستعملني في مهمة كنت أظنها عظيمة خصتني بها دون أشقائي وأنا دون العاشرة وهي أن أهش علي دجاجها وطيورها بالعصا البوص للحيلولة دون أن تمس إحداها عجينها فتفسده، ثم ترسلني بهديتها من خبزها الطازج إلي جيراننا من عجائز حارتنا اذكر منهن جدتي أم ربيع وجدتي أم قناوي والخالة أنيسة .فما كان لصاحب بيت أوقد نارآ في بيته إلا وذاق طعامه جيرانه.تلك سنة كل بيوتات هذا الزمن الجميل أنذاك، وآثرت مرة ان أحمل عنها تلك الصينية النحاسية العتيقة إلي صحن المنزل التي عليها غداء الشيخ سعد و كان طبقًا ساخنًا من العدس الاسود تفوح منه رائحة السمن البلدي إلي أقصي بيوت حارتنا وبجانبه طبق المخلل صنع البيت، وإذا به يسألني: هل هناك سيدالطعام؟ فلم أفهمه. وبينما أنا حائر ابتسمت جدتي إبتسامة عريضة والخجل يسبقها، وفهمت ساعتها أن سيد الطعام هو اللحم، وكانت البيوت في ذلك الحين رغم قلة المال والكسب عامرة بالبركة والجود وإطعام الطعام وهذا جل مؤنتها فحسب" الدقيق والعسل والجبن و هاتيك الأسطح التي لاتخلو من أطياف الطيور " ذلك هو حالها ، حتي إذا حل بها ضيف في أي وقت لا تجد حرجًا أوعبئًا في ضيافته ، أما الآن فيوجد المال والكسب أرقامًا فوق أرقام، ولكن أين البركة وأين جدتي؟!
أغرقتنا التكنولوجيا الحديثة بوسائل الرفاهية، فهذه البنايات الفارهة التي يطلق عليها بلغة العصر" الكمبوند" أصبح فيها الجيران المتلاصقين أقرب إلي الغرباء بتقطع أواصر الود بينهم و ربما حتي تحت السقف الواحد فذهبت البركة و الحميمية ، أما صلة الأرحام فقد ذابت هي الأخرى في زخم وسائل التواصل الحديثة المتنوعة، ولا غرابة من أن تجد أروقة المحاكم قد عجت بقضايا الطلاق ونزاعات المواريث بين بني البيت الواحد.
رحم الله جدتي ووالدينا ورحم الله الشيخ سعد ورفاقه الذين ملأوا بيوتنا بركة وخير بنور القران الكريم