الجمعة 05 يوليو 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

لا تزال ذاكرتي حاضرة تموج عرضاً وطولاً تأملاً واستعراضاً لهاتيك النماذج الفريدة والقدوات من الرجال والنساء ، ممن عايشتهم أو تناولتهم أقلام الادباء في أمهات الكتب ، هؤلاء الذين استقبلوا خبر موت ذويهم من الأهل والأقارب بثبات وصبر وقوة إيمان ،  ولكن كل هذه النماذج  قد  صغرت أمامي وانا مشدوهاً من ثبات وفرط عظمة قوة الإيمان التي تحلى بها وائل الدحدوح أيقونة الصمود الفلسطينية ، وهو يستقبل خبر فجيعته الأكبر والأعظم  في رحيل  الزوجة والولد والحفيد ، لقد رحلوا معاً دفعة واحدة  ولم يكن رحيلهم لصراع طويل  مع المرض   أو جراء حادث سير ولا ماتوا فريسة وباء لعين ، بل سالت دماؤهم الذكية بقصف صواريخ محتل غاشم  وبطاش ، أقل ما يوصف به أنه تجرد من كل أطوار الآدمية ،  فصبر الرجل واحتسب ، ولاتزال دموعه لم تجف من غلواء عاطفته و ألم الفراق في قلبه لم يبرحه بعد حتى باغته ثانية خبر استشهاد حمزة رفيق دربه وابنه  الأكبر بقصف وحشي آخر متعمد ، لتتفاقم  الآلام مجدداً وتتعاظم الأحزان في الأعماق ولكن وجدنا  الرجل رابط الجأش كعادته يقف وقوراً مثل الجبل الأشم يسكن قلبه إيمان العظماء الصالحين وتكسو قسماته حالة من الرضا فصلى واستغفر ووارى نجله إلى مثواه الأخير شهيداً ، ثم رأيناه يلتقط ميكروفونه يمارس عمله  وينقل خبر المعارك من غزة العزة وكأنه رجل غير الرجل ، لقد غير  الدحدوح كل نظريات علماء النفس والإجتماع التي تصف حال الناس فور تلقيهم خبر موت ذويهم  الأقربين مابين فاقد الوعي وبين من ذهب رشده ، فلم يشطط أو أفقدته الصدمة صوابه فراح يهذي وينتحب ،  بل أخذ أنامل يد حمزة الطاهرة يقبلها في ثبات ويقول : حمزة كلي وروحي وبكري ، حتى انسابت من عينيه على حياء دموعه السخينة  فأبكى رفاقه قائلاً : هي دموع الإنسانية لا دموع الجزع ياحمزة ، خبرنا أباحمزة من أنت ؟!  لعلنا عرفنا من أنت ، حسبك شرفاً أن نراك قد ارتقى نسبك ، ليخالط نسبك نسب هؤلاء العظام : الخنساء أم الشهداء الأربعة في معركة  القادسية ، التي قالت عقب سماعها خبر استشهادهم : " الحمد لله الذي شرفني بإستشهادهم ، وإني أسال الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته "  وهذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما استقبل  الموت  فقال  مرحباً بالموت مرحباً زائر جاء بعد غيبة وحبيب جاء على فاقة ، اللهم إنك تعلم أني اخافك ولكني اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أنني لم أحب الدنيا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء،  فأي الرجال انت ؟!  أزعم إن أنت إلا رجل مؤمن جاء إلينا من زمن الصحابة رضوان الله عليهم يعيش متخفياً بين ظهرانينا ، تجلى لنا وجهه بنوره الوضاء بعد هذه  الخطوب والنوازل ، التي تنوء بها عصبة الرجال الأقوياء .
أباحمزة هنيئاً لكم آل الدحدوح لقد شرفكم الله عز وجل بأن أصبحتم  في معية الأنبياء إذ سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الناس أشد بلاءً فقال : " الأنبياءُ ، ثم الصالحون ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه ، فإن كان في دِينِه صلابةٌ ، زِيدَ في بلائِه ، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ " .
فطوبى لكم أبا حمزة هذه المنزلة في الدنيا والأخرة .

تم نسخ الرابط